في الذكرى العاشرة لاحتلال العراق…
د. إبراهيم علوش
في عام 1996، قدم المحافطون الجدد ورقة لبينجامين نتنياهو بعد نجاحه بالانتخابات “الإسرائيلية” بعنوان “بداية جديدة” أو Clean Break يقترحون عليه فيها أن تتبع “إسرائيل” إستراتيجية هجومية تقوم على إعادة تشكيل محيطها الاستراتيجي عن طريق العمل لإسقاط القيادة العراقية، وإقامة حكم موالٍ في العراق، يتم بعدها تشكيل محور أردني-عراقي-تركي-“إسرائيلي” لاحتواء سوريا. وكانت هذه الخطة تقوم على التعاون مع الولايات المتحدة لتحقيقها، وكانت تفترض بداهةً شطب فصائل المقاومة في فلسطين وحزب الله في لبنان.
وكان الكاتب الرئيسي لتلك الورقة الصادرة عن معهد الدراسات السياسية والإستراتيجية المتقدمة في الكيان الصهيوني هو ريتشارد بيرل، أحد كبار صقور المحافظين الجدد الذي تحول فيما بعد إلى رئيس للمجلس الدفاعي الاستشاري في البنتاغون بعد مجيء بوش الابن، حيث بقي إلى أن استقال بعدها بسنوات.
وبعد نجاح بوش الابن بالانتخابات الأمريكية عام 2000، وقبل استلامه رسمياً للبيت الأبيض، أعد فريق المحافظين الجدد نفسه ورقة جديدة، تقوم على الورقة الأولى المقدمة لنتنياهو، وتم عرضها على الحلقة الداخلية المقربة لبوش وقتها مثل دك تشيني ودونالد رامسفيلد وبول ولفوويتز، وكانت تدعو الورقة الثانية التي صدرت عن مركز دراسات أمريكي يسيطر عليه المحافظون الجدد هو Project for a New American Century (مشروع قرن أمريكي جديد) إلى تغيير النظام في العراق بهدف وضع اليد بشكل مباشر على كامل منطقة الخليج.
وكان ذلك قبل ضربات 11 سبتمبر 2001، ولكن الورقة الجديدة كانت أكثر طموحاً من سابقتها في أنها تبنت رسمياً إستراتيجية “تغيير الأنظمة” لا في العراق وسوريا ولبنان والسلطة الفلسطينية فحسب، بل في إيران والسعودية أيضاً.
وقد جاء تدمير جرذان الناتو ومجلس التعاون الخليجي لنصب القائد القومي العربي خالد الذكر جمال عبد الناصر في بنغازي في 11/2/2012 بالجرافات والمطارق ليؤكد من خلال رمزية الحدث أن ما يسمى ب”الربيع العربي” هو (أو قد تحول إلى – كما يرغب القارئ الكريم، لأن النتيجة واحدة) مشروع انقلاب على كل رموز وعناوين مرحلة المد القومي التحرري في الوطن العربي في الخمسينات والستينات، وأنه استمرارٌ لغزو العراق وتدميره بوسائل أخرى. وبهذا المعنى، فإن ذلك “الربيع” يكون قد بدأ رسمياً في العراق عام 2003، ويكون تحالف الإخوان المسلمين، من خلال الحزب الإسلامي العراقي، مع الولايات المتحدة وحلف الناتو قد تم تجديده هناك، بين طارق الهاشمي وبول بريمر، دون أن يعفي ذلك الأحزاب الكردية والإيرانية في العراق من عقد التحالف نفسه وقتها وأكثر، سوى أن الحليف الأبرز اليوم بات الإخوان والسلفيين والجهاديين، إلا من رحم ربي.
وفي سياق ما يسمى ب”الربيع العربي” الذي أسهم بعض زاعمي الإسلام مع الليبراليين بتشكيله على هيئته الأمريكية كما نراها اليوم، لا بد من الإشارة لجريمة معنوية وسياسية كبرى ترتكب اليوم بحق العروبة ورموزها في العراق، فيما تقوم قوات الصحوة بتجيش السنة في العراق من أجل القتال لمصلحة حلف الناتو ومجلس التعاون الخليجي في سوريا، وهي جريمة محاولة تجيير القائد القومي خالد الذكر صدام حسين لمصلحة السياسة السعودية والقطرية في هذه المرحلة. فصدام حسين أكبر من أن يجير طائفياً، أو لمصلحة مجلس التعاون الخليجي وسياساته الصغيرة.
وصدام حسين الذي واجه الأمريكان وحلفاءهم في حرب ضروس بين عامي 1990 و2003، ومن ثم كقائد للمقاومة العراقية، والذي واجه حصاراً لم يعرف له التاريخ مثيلاً ولم يتراجع، والذي رفعته المشنقة بدلاً من أن تهوي به، لم يكن من الممكن له أن يقف مع الأمريكان وحلفائهم في معركة تركيع سوريا، وما كان من الممكن له أن يرضى عمن يستخدمون اسمه زوراً للتبرير التدخل الأجنبي في الوطن العربي. ونذكر أن صداماً اتبع سياسة انفتاح مع سوريا منذ مجيء بشار الأسد للحكم، وأن سوريا أسهمت بفك الحصار عن العراق، وأنها لم تشارك بالعدوان على العراق كغيرها ممن يحب ترداد كلمة “حفر الباطن” من المتحالفين مع من أداروا “حفر الباطن” واشتركوا بمثله ضد سوريا، وأن سوريا تدفع ثمناً الآن لأنها احتضنت المقاومة العراقية (واللبنانية والفلسطينية)، وأن بعض أولئك المقاومين، الإسلاميين منهم بالذات، أظهروا أنهم الأكثر استعداداً لنكران الجميل السوري عليهم.
أما من يزعم أنه يتأسى بصدام حسين، فنذكره بالمدد العراقي لسوريا في حرب 1973، على الرغم من الخلاف الضاري بين جناحي البعث في سوريا والعراق وقتها، لأن القومي العربي الحقيقي يفكر بمصلحة الأمة أولاً، لا بالحسابات الصغيرة، ومصلحة الأمة تكون بدعم من يخوض معركة وجود الأمة ضد الإمبريالية والصهيونية (بشار الأسد الآن)، وتكون بكشف الغطاء عمن يتحالف مع الإمبريالية والصهيونية (قوى الإسلام السياسي الآن)، بغض النظر عن الذريعة.
ولا بد من لفت النظر لنقطة منهجية هنا، وهي أن أهم ما يفعله الذين يحاولون تشويه صدام، غير ممارسة الأكاذيب والدعاية المضادة المكشوفة، أهم ما يفعلونه في المنهج، هو الانطلاق في تقييم صدام حسين الرئيس الشرعي للعراق وقائد المقاومة العراقية ومؤسسِها، خارج سياق معركة الأمة. ومن هذه البداية المزورة، يحاولون أن يفرضوا علينا التعاطي مع صدام حسين كمجرد، كفردٍ معلقٍ في الفراغ ذي أخطاء أو خطايا، أو كحاكم لإحدى الجزر الضائعة في المحيطات، ليحولوه بعد ذلك إلى شخصية طائفية. إنهم يحاولون أن يقدموا صدام حسين خارج سياق المشروع القومي، خارج سياق التحديات التي تواجهها الأمة، خارج المعركة على النفط ووحدة العراق، خارج صراعنا التاريخي كوطنٍ عربيٍ مع قوى الهيمنة الخارجية، سواء جاءت من الشرق أو الغرب.
إن صدام حسين يمثل ثلاثة أشياء:
فلقد كان أولاً قومياً في منهجه..
وكان ثانياً مقاوماً في نموذجه..
وكان ثالثاً جذرياً في موقفه..
وتلك الصفات الثلاث، بانصهارها فيه، هي ما يعنيه صدام حسين اليوم. ومن يحب صدام حسين لغير هذه الصفات لا يعرف الرجل، ومن يكره صدام حسين وهو يحب تلك الصفات لا يعرف الرجل.
فصدام حسين كان يمثل مشروعاً قومياً أولاً، وتجربة قومية أصيلة على صعيد العمل الوحدوي والنهضوي. وهي من أهم تجارب العرب في العصر الحديث، فهي تقف تاريخياً بجدارة إلى جانب التجربة الناصرية وتجربة محمد علي باشا في مصر. ومثل كل تجربة، لم تخلو تجربة القيادة العراقية من الأخطاء والشوائب كما قال الرئيس الشهيد أكثر من مرة. ولكنها كانت قبل كل شيء تجربة تتسم بالجدية والإخلاص، ولعل استهدافها بمثل هذه الوحشية أكبر دليلٍ على أهميتها. فمن تأميم النفط ومعاهدة الصداقة والتعاون مع الإتحاد السوفياتي عام 1972 التي حددت خيار القيادة العراقية في العلاقات الدولية دون تذيل أو تبعية (ويذكر هنا أن الاتحاد السوفياتي السابق عاد لتصدير الأسلحة للعراق عام 1982، بعد وقفها عام 1980، بعدما رفضت إيران قرارات ودعوات وقف إطلاق النار في الحرب العراقية-الإيرانية)…
ونضيف… إلى توزيع الأراضي على الفلاحين، ومحو الأمية وتعميم التعليم المجاني في كل المراحل، وسن قانون حقوق المرأة، ومنح الأكراد حكماً ذاتياً (أسوةً بإيران وتركيا طبعاً!)، ومشروع البناء الاقتصادي والصناعي والعسكري والعلمي العملاق (بدلاً من سياسة تصدير العائدات النفطية للغرب والاستيراد من الخارج)، إلى تفضيل العرب في العقود والتوظيف في العراق حتى في أقسى لحظات الحصار (كما يتذكر الداعون للتشديد على دخول وإقامة اللاجئين العراقيين في أقطارهم اليوم)، إلى الدعم السخي الذي أغدقه العراق على عدة أنظمة عربية – قلبت له بعدها ظهر المجن – وعلى الثورة الفلسطينية وعائلات الاستشهاديين، إلى فتح الجامعات والمعاهد العراقية لعشرات الآلاف من الطلبة العرب، وحتى إلى محاولة امتلاك أسلحة الدفاع الشامل، وهذا مثلاً لا حصراً، فإن عراق صدام حسين مثل تجربةً حقيقيةً جعلت من العراق نموذجاً وحاجزاً عربياً جباراً في وجه الطامعين شرقاً وغرباً حتى تحت الحصار. وقد ثبت الآن وجود مشروع لتكسير العراق وتحطيم إنجازات التجربة على جميع الصعد، وأن صدام كان عائقاً حقيقياً في وجه ذلك المشروع.
فإن كل ما يجري في العراق، وفي كل حياتنا العربية المعاصرة ما برح يؤكد بأن لا مخرج لهذه الأمة من مآزقها العديدة إلا بالمشروع القومي.
وإذ ترى تفاقم صراع الطوائف والاثنيات والقبائل والقطريات والهويات الصغيرة في وطننا العربي الكبير، وإذ ترى سعي قوى الهيمنة الخارجية لتفكيك المفكك وتجزئة المجزأ، فإنك تدرك بالقلب أن الانتماء للعروبة هو وحده ما يمكن أن يوحد الشيعة والسنة في العراق وغير العراق، وهو وحده ما يمكن أن يوحد المسلمين والمسيحيين في مصر وغير مصر، وهو وحده ما يمكن أن يوحد الأردنيين والفلسطينيين في الأردن، وهو وحده ما يمكن أن يوحد مواطني هذا الوطن العربي الكبير بأغلبيته وأقلياته.
نعم ثمة مشكلة مع إيران، لكنني أقتبس من صدام حسين حين أقول أن العدو الرئيسي لهذه الأمة هو الطرف الأمريكي-الصهيوني وأذنابه. من يتمسك بالعروبة حقاً لا يتحالف مع عدونا الرئيسي الأمريكي-الصهيوني ولا يتذيل له. من يدافع عن سيادة هذه الأمة حقاً لا يقدمها على طبقٍ من ذهب للطرف الأمريكي-الصهيوني، ولا يتعاون معه على العراق، ولا يحاصره، ولا يسمح للعدوان على العراق أن ينطلق من أراضيه ومائه وسمائه كما فعلت الأنظمة العربية…
من يتحدث عن ضرورة مواجهة التمدد الإيراني والتركي في الإقليم عليه أولاً أن يثبت براءته من الولاء للطرف الأمريكي-الصهيوني.
باختصار، من يتحدث عن الخطر الإيراني، وهو مجرد جرو صغير للولايات المتحدة والكيان الصهيوني، يجب أن نقول له أن يخرس. ولا يحق لأحدٍ أن يناقش جرائم إيران أو غيرها إن لم يثبت أولاً أنه يتخذ موقفاً حازماً ونهائياً من الطرف الأمريكي-الصهيوني. ونحن أمة العرب أمة سيدة على أرضها، لا نقبل الاحتلال ولا التبعية ولا الإنحاء، لا للولايات المتحدة، ولا للكيان الصهيوني، ولا لتركيا، ولا لإيران، ولا لغيرها.
الصفة الثانية لصدام حسين أنه كان مقاوماً. ولا بد من التذكير هنا أن صدام استشهد ليس فقط بصفته الرئيس الشرعي للعراق، بل بصفته قائداً للمقاومة العراقية.
والموقف المقاوم يعني دعم فصائل المقاومة العربية في كافة أماكن تواجدها. ومن يفاضل بين مقاومة ومقاومة، فيدعم هذه ويقصر بحق تلك، لا يتبنى موقفاً مقاوماً حقيقياً، ويترك ثغرات كبيرة في موقفه وفي جدار الأمة. نحن المواطنين العرب نستبشر الخير من المقاومة العربية حيثما وجدت. فلماذا يقصر البعض في دعم المقاومة العراقية أو الفلسطينية أو اللبنانية؟! بل يجب أن ندعم المقاومة في العراق ولبنان وفلسطين وحيثما وجدت.
الصفة الثالثة لصدام حسين أنه كان جذرياً، فهو يمثل نموذجاً نضالياً جذرياً يفهم جيداً الطبيعة التناحرية للتناقض ما بين قوى الأمة وقوى الهيمنة الخارجية، ويستعد للذهاب بالمعركة مع العدو إلى نهاياتها المنطقية: النصر أو الشهادة. وهذا ينبع من قناعةٍ راسخةٍ بأن صراعنا مع قوى الهيمنة الخارجية وأذنابها ليس صراعاً على تحسين شروط تبعيتنا لها (بشكل تدريجي وسلمي حسب البعض!)، بل هو صراع وجود لا يحل إلا بالعنف، وأن التناقض بين الأمة وأعدائها لا يتعلق بالتفاصيل التفاوضية مثلاً، بل بوجود الأمة نفسه. وقد انتقلت معركة الأمة اليوم من الحيز العراقي إلى الحيز السوري، لكنها كانت منذ البداية معركة واحدة…
للمشاركة على الفيسبوك:
اترك تعليقاً