د.إبراهيم علوش
قلة من الاردنيين يصدقون أن العجوزات الضخمة في موازنة الدولة، وبعض مؤسسات البنية التحتية، لا ترتبط إلى حدٍ ما على الأقل باستشراء الفساد المالي والتسيب والمحسوبية على اعلى المستويات. غير أن هذا لا يغير حقيقة أن وجود مئات آلاف اللاجئين السوريين، والبعض يقول أنهم أكثر من مليون لاجئ، يمثل ضغطاً حقيقياً على البنية التحتية الأردنيةالمرهقة، وعلى الأحواض المائية المستنزفة، وعلى الموازنة الأردنية العاجزة، وعلى سوق العمل الأردنية الضيقة، وعلى الاستقرار الداخلي القلق أصلاً.
وعلى الرغم من تدفق بعض المساعدات الخليجية والأمريكية خلال الأشهر الأخيرة، بعدما باتت موازنة الدولة “على الحديدة” بسبب انخفاض توريد الغاز المصري المتعاقد عليه وارتفاع كلفة استيراد الوقود اللازم لتوليد الكهرباء، دون أن يمنع ذلك بعض الشركات الخاصة في مجال الكهرباء من توليد أرباح ثابتة ومضمونة، فإن أحداً لا يستطيع أن يعرف، في ظل غياب الشفافية المحاسبية، مدى ما يمكن أن تغطيه تلك المساعدات من العجز الناتج عن استيراد الطاقة أو تدفق اللاجئين السوريين، ومدى العجز الذي لا تغطيه، ومن المؤكد أن الأعباء كبيرة جداً وتصعب تغطيتها بسهولة، ومن المؤكد أكثر، في جميع الأحوال، أن المواطن الأردني، كأكبر دافع للضرائب في العالم ربما، كنسبة من الخدمات التي يتلقاها، بات يشعر أنه من سيتورط بتسديد تلك الفاتورة المرتبطة بظروف الوضع الإقليمي لا الفساد فحسب.
إزاء تلك الحالة النفسية بالذات يمكن أن نفهم حديث رئيس الوزراء الأردني د. عبدالله النسور قبل أيام عن إقامة منطقة عازلة في جنوب سورية لإيقاف تدفق اللاجئين، وكذلك حديث الرئيس اللبناني ميشال سليمان عن إقامة مناطق عازلة للاجئين السوريين على الحدود مع لبنان. لكن أي مراقب سياسي يدرك، كما يدرك الرئيسان النسور وسليمان، أن اي مناطق عازلة لا تهدف لتخفيف العبء على لبنان أو الأردن، ولا تنطلق من الاعتبارات المحلية الأردنية أو اللبنانية بمقدار ما تنطلق من فرصة إيجاد صيغة مقبولة محلياً في لبنان والأردن، وممكنة إقليمياً ودولياً، لفرض التدخل الدولي في سورية وقضم سيادة الدولة السورية على أرضها، بعدما تم فتح الأبواب على مصراعيها لاستقبال اللاجئين السوريين في لبنان والأردن، ولكن ليس في تركيا.
مثل تلك المناطق العازلة المحمية دولياً وإقليمياً يمكن بسهولة بعدها أن تتحول إلى مواطئ قدم للزومبي والإخونج لتصعيد الحرب الدولية الإقليمية على الدولة السورية بالوكالة انطلاقاً من قواعد مشمولة بمناطق حظر الطيران، أسوة بما فرض على العراق طوال ثلاثة عشر عاماً في شماله وجنوبه، وتعتبر هجمات المتمردين في سورية على القواعد الجوية السورية إحدى مقدمات فرض تلك المناطق العازلة وصولاً لفرض تفكيك فعلي في سورية، كما حدث بالعراق.
وقد كانت السياسة الأردنية إزاء سورية حتى الآن تتميز باللعب على عدة حبال، تحت غطاء الحياد تارةً، وخوفاً من آثار ارتداد سيطرة الإسلامويين في سورية، أو بعض أجزائها، على الأردن طوراً، ومراعاةً لخواطر “اصحاب الفضل” الأمريكيين أو الأوروبيين أو الخليجيين طوراً أخر… ولذلك رأينا السياسة الأردنية الرسمية تتأرجح بشكل مدروس بين الدعم المتحفظ للحملة على الدولة السورية وبين النأي بالنفس عن التورط في النزاع، في الوقت الذي كان ينقلب فيه المزاج الشعبي الاردني تدريجياً وببطء ضد الفوار السوريين بعدما انكشفت تحالفاتهم وجرائمهم.
وعلى الرغم مما ذكرته صحيفة “الوول ستريت جورنال” الأمريكية في بدايات شهر آذار في العام 2012 عن تهيئة قوات في الاردن للتدخل للسيطرة على “أسلحة الدمار الشامل” المزعومة في سورية، في سيناريو محروق تم نسخه ولصقه بكل استخفاف من تجربة العراق، فإن ما جاءت به صحيفة “الواشنطن بوست” خلال الأيام الأخيرة عن تدريب آلاف الفوار السوريين من قبل الأمريكيين في الأردن تهيئة لزجهم في سورية، ربما في المناطق العازلة المنوي إقامتها، وحديث د. عبدالله النسور عن ضرورة إقامة مثل تلك المناطق العازلة، يدل بأن السياسة الاردنية الخارجية تنتقل بسرعة لتوريط الأردن المثقل بالإعباء، بذريعة تلك الأعباء بالذات، في نزاعٍ سوف يقود التورط فيه إلى زيادة مثل تلك الأعباء ثقلاً.
وفي الوقت عينه صرح الناطق باسم وزارة الخارجية الروسية الكسندر لوكاشيفيتش البارحة بأن تسرب المتمردين السوريين عبر الحدود الأردنية وصل إلى مستويات غير مسبوقة منذ بدء النزاع في سورية…
فهل تأتي هذه السياسات الاردنية تسديداً لفواتير المساعدات الغربية والخليجية المرسلة والموعودة؟ وهل تم تغيير الإستراتيجية الأردنية إزاء سورية في الخفاء؟
من المؤكد أن التورط في النزاع السوري ليس من مصلحة الأردن نظاماً وشعباً، وثمة تيارات قوية من “عظم رقبة” النظام عبرت عن ذلك بوضوح، كما رأينا في مجلس النواب الأردني مثلاً عندما طرح الموضوع السوري وموضوع اللاجئين قبل فترة قصيرة. غير أن هناك تياراتٍ أخرى في النظام، أكثر ارتباطاً بالتنسيق الأمني والسياسي مع الطرف الأمريكي-الصهيوني، وقد سبق أن رأينا دورها الوظيفي في أفغانستان مثلاً، يبدو أنها تعمل بوحي أجندة غير أردنية ولا عربية، وهي تيارات تدفع باتجاه تورط الأردن في سورية لحساب الولايات المتحدة والكيان الصهيوني.
وإذا لاحظنا الموضوعات التي تمحورت حولها التسريبات الصحفية الأمريكية عن الدور الأردني في سورية، قبل عام في “الوول ستريت جورنال”، واليوم في “الواشنطن بوست”، فإننا نلاحظ أنها ترتبط بلعب دور أمني إقليمي لمصلحة العدو الصهيوني.
فأسلحة الدمار الشامل المزعومة وفقدان السيطرة عليها موضوعة تتعلق أساساً بأمن العدو الصهيوني، وكذلك المنطقة العازلة اليوم التي لم يأت الحديث إلا بعد تصاعد عمل المجموعات المسلحة في المحافظات الجنوبية للدولة السورية. وإذا كانت بعض تلك المجموعات تنسق مع العدو الصهيوني، عبر الأردن، كما ذكرت تسريبات صحفية، وإذا كان بعض جرحى تلك المجموعات يتلقى العلاج في الكيان الصهيوني، فإن انفلات الأمن ربما يفتح الباب لمجموعات أخرى غير مسيطر عليها، وللنظام السوري نفسه، لإصابة الكيان الصهيوني ببعض رذاذ “الفوضى الخلاقة” التي يحيط بها سورية، ومن هنا جاء الاستهداف الصهيوني لموقع عسكري سوري كرسالة. لكن الحل يبقى بتسليم الحدود مع العدو الصهيوني في تلك المناطق لأطراف مضمونة مثل قوى 14 آذار والنظام الأردني، ومن هنا الحديث في الواقع عن المناطق العازلة…
أخيراً، مع تصاعد حدة المعركة في سورية وعليها، فإن المنطقة الرمادية تضيق تدريجياً، وعلى المرء أن يحسم أمره بوضوح في هذا المعسكر أو ذلك، والنظام الأردني لا يخرج عن تلك القاعدة.
للمشاركة على الفيسبوك:
اترك تعليقاً