بشار شخاترة
تشتد حدة الأزمة الراهنة في مصر مما يعكس انقساما حادا في المجتمع المصري ولتكشف الأزمة في ثناياها زيف الربيع المزعوم.
تفجرت الأزمة مع الإعلان الدستوري الذي أعلنه مرسي يمنح نفسه بموجبه صلاحيات مطلقة تحصن قراراته من الطعن، وتحرم المراجع القضائية المختصة من النظر في دعاوى مقامة أصلا للنظر في دستورية مجلس الشورى والهيئة التأسيسية للدستور، كما تحرم القضاء من النظر في أي دعاوى قضائية قد تقام بخصوص ما يصدر عن الرئيس من قرارات قد تكون محلا للطعن.
الحقيقة إن فكرة تحصين القرارات ضد الطعن لا تتوافق مع قواعد العدالة والتي تعطي الحق لصاحب المصلحة بالاعتراض على الأعمال القانونية إدارية أو دستورية أمام القضاء الإداري أو الدستوري إذا شاب تلك الأعمال – من قرارات إدارية أو قوانين أو أنظمة ( لوائح ) – عيبا يعرضها للطعن أمام المرجع القضائي المختص.
وعلاوة على ما سبق فان الفقه والقضاء معا قد ضيقا كثيرا من فكرة التحصين وكانت المنظومة القانونية المصرية رائدة في هذا المجال ناهيك عن أن هكذا ممارسات تعد ذات طابع عرفي لا ينسجم مع المرحلة السياسية الجديدة بشعاراتها الديمقراطية.
إن ادعاء الرئيس بان الإعلان الدستوري لا يمس القرارات الإدارية وإنما سيطبق على القرارات السيادية فقط فهو محل نظر، فهذا الادعاء خيار يستطيع أن يفعله وقتما يشاء أو يتغاضى عنه فطالما انه أعطى نفسه السلطة الأشد فله الخيار في التطبيق تبعا لمصلحته وجماعته.
أما نظرية أعمال السيادة التي ابتدعها مجلس الدولة الفرنسي في حقبة تاريخية من القرن التاسع عشر فقد كانت نوع من طأطأة الرأس أمام الحكومة الفرنسية لكثرة القرارات التي كان يلغيها المجلس والتي شكلت تهديدا لوجوده فابتدع نظرية أعمال السيادة لاستثناء طائفة من الأعمال القانونية من الطعن، والتي أخذت بها الدول التي تتبع النظام القانوني اللاتيني ومنها مصر ، إلا أن الفقه والقضاء الفرنسيان قد ضيقا من هذه النظرية بحيث أصبحت تطبق على نطاق محدود من الأعمال القانونية الصادرة عن الإدارة وقد درج الفقه والقضاء في مصر على هذا النهج أيضا، مما يؤكد أن رقابة القضاء مبسوطة على أعمال الإدارة التي يجب ألا تخالف الدستور أساسا ويجب ألا يعتريها عيب يفقدها شرط الصحة حتى تكون نافذة بحق من تخاطبهم ،وألا تنطوي على سوء النية.
وعليه فإذا كانت القرارات السيادية هي المقصود من الإعلان الدستوري فإنها فقها وقضاء مسلم بتحصينها وان كانت بشكل أضيق مما كانت عليه ابتداء، وبالتالي فان فكرة الإعلان لا تخلو من سوء النية الذي يفتح الباب على مصراعيه للتكهن والتحليل، وعلى انه يفقد الإدارة صدقتيها ويجعلها بمنجى من المسؤولية والمساءلة مما يبعدها أساسا عن العدالة ويتعارض مع الفكر القانوني وقواعد العدالة الراسخة التي تتمثل بأبسطها وهي تلازم السلطة مع المسؤولية.
أزمة الدستور الحالية مظهر من مظاهر زيف الديمقراطية التي تتشدق بها جماعة مرسي وتكشف تهافت الربيع المسمى عربيا، ديمقراطية تكرس مرسي حاكما مطلقا عبر احتكار سلطة التشريع جامعا معها سلطة التنفيذ بالأساس ومستثنيا سلطة القضاء من الرقابة على عمل، وهذا هو الحكم المطلق تركيز جميع السلطات بيد شخص أو هيئة مع الخضوع لسلطة القانون.
ولعله من المفارقات النادرة في طابع الحكم القائم في مصر انه ذو طبيعة مركبة من جهة انه حكم مطلق كما يعرفه الفقه الدستوري كما أن له طبيعة ثيوقراطية ( دينية ) وهو ما يوصف بالحق الإلهي في الحكم وهو ممارسة السلطة باسم الله من خلال الحاكم وجماعته، وهذه الطبيعة المركبة لنمط الحكم لم تمارسه اشد الديكتاتوريات في التاريخ ودون مبالغة نظرا لإمساكها للجانب القانوني وتسخيره لمصالحها ولإضفائه طابعا دينيا على ممارسته للسلطة وان مخالفة هذا النهج يعد عصيانا لله.
وفي مقابل هذا المعسكر الذي يريد أن يحسم الوضع مرة واحدة ودون عودة لصالحه هناك معسكر من قوى متعددة لم تطرح أيضا ما يعطيها الأفضلية في مواجهة المشروع الاخواني الذي هو في حقيقته مشروع ليبرالي بلحية ولا يقاوم خط التبعية ونهج كامب ديفيد وهو الذي لم يرفضه المعسكر المنازع للإخوان على السلطة فالكل يتنازع تحت سقف كامب ديفيد والنهج التابع للمركز الرأسمالي مما يبقي احتمالات الانفجار قائمة باستمرار نظرا لان ما سمي ثورة لم تغير من بنية نظام مبارك سوى اسم الرئيس وهو ما تباركه الولايات المتحدة وتثني عليه لان السقف بقي أمريكيا ليفيق الناس على لا شيء سوى ديمقراطية وصناديق اقتراع ودساتير تضاهي الديمقراطيات في أوروبا ولكن بقي الحال على ما هو عليه أيام مبارك.
الغائب الحقيقي هو المشروع القومي الوحدوي الذي يضع الأمور في نصابها ويقطع الصلة مع الماضي وينهي نهج التبعية المستمر وينهي ابرز مظاهره وهو اتفاقيات العار مع الكيان الصهيوني ويعيد مصر إلى أمتها التي سرقها نهج السادات وخلفه واتى نظام مرجعية المقطم ليكرسه مقابل الاعتراف بالسلطة الدينية المطلقة الجديدة على مصر.
المؤسف انه للان لم تبزغ قوة ذات وزن تنهج نهجا قوميا تقدميا يعيد قراءة مطلب الجماهير المصرية التواقة للتغيير بمعنى الكلمة‘ فليس بين القوى الأخرى المناوئة لمرسي من يطرح مشروع النهوض والتغيير الذي يجيب فعلا على أهم مشكلة وهي أم المشاكل تحرير مصر من قيودها وإعادتها إلى ريادة أمتها العربية وإلا فان الدوران حول النفس سيكون سمة المرحلة القادمة إلى أن تنضج أجواء ولادة المشروع الثوري العربي التحرري لا مشاريع ربيع أمريكا و( إسرائيل).
اترك تعليقاً