ذكرى 15 أيار الثالثة والستون

الصورة الرمزية لـ ramahu

 

د. إبراهيم علوش

 

12/5/2011

 

نصر على القول أنها ذكرى احتلال فلسطين، لا مجرد نكبة أو اغتصاب، لأن الاحتلال يطرح فوراً ضرورة التحرير، أما التحدث عن نكبة وما شابه، فيشبه الحديث عن زلزال أو كارثة ما، كحادثة من الماضي أتت ومرت وليس بالإمكان تغييرها، حتى لو كانت ذكرى على شاكلة استخدام الأمريكيين للقنابل النووية في ناكازاكي وهيروشيما يصبح كل معنى إحياء ذكراها تعلم العبر والدروس وتبجيل ضحاياها.  بالمقابل، عندما نقول هو احتلال أولاً وأخيراً، فإن إحياء الذكرى يصبح معناه التعبئة من أجل التحرير، لا تضييع قضية التحرير في مصطلحات الماضي بغض النظر عن حسن النوايا.

 

وتأتي الذكرى الثالثة والستين لاحتلال فلسطين هذا العام على خلفية الحراك الشعبي العربي الذي غيب الصراع مع الإمبريالية والصهيونية، وانتهى إلى التركيز على قضايا الإصلاح وحقوق الإنسان في الشعار، وعلى تغيير الرؤوس دون تغيير الأنظمة في المضمون، وانتهى بالتالي إلى الإبقاء على بنى التبعية والعلاقة مع العدو الصهيوني كما هما فعلياً، وهو ما أكده تصريح مائير دغان، رئيس الموساد السابق، في محاضرته في الجامعة العبرية في 8/5/2011 بأن ما جرى في المنطقة ليس تسونامي ولا ثورة انترنت، بل شروخ وتراكمات تاريخية دفعت الناس للخروج للشارع، وأن ما جرى في مصر ليس ثورة بل استبدال زعماء، وبالتالي فإن العلاقات مع “إسرائيل” لن تتضرر. 

 

ومن هنا فإن الدعوة لمسيرات باتجاه فلسطين مهم جداً لأنه يعيد طرح قضية الصراع مع العدو الصهيوني، ويعيد فرض تلك القضية المغيبة قصراً وبشكل مشبوه عن أجندات “الثورات الديموقراطية”، ناهيك عن تلك “الثورات” التي تصب مباشرة في مشاريع تفكيك المنطقة طائفياً، أو التي تتلقى دعماً عسكرياً مباشراً من حلف الناتو.  وقد سمعنا كلاماً من مصر “الجديدة” بأن ملف فلسطين مؤجل ريثما يتم تأسيس نظام قوى ومستقر وإسلامي قادر على المواجهة لنكتشف فجأة بأن ملف فلسطين كان مفتوحاً على دفتيه لتحقيق “المصالحة الفلسطينية” على أرضية، يقول موقع دبيكا الصهيوني، في تقريرٍ له في 9/5/2011، أنها توجه جديد لدى إدارة أوباما للتفاهم مع الإخوان المسلمين في المنطقة على حساب الأنظمة القائمة من سوريا إلى مصر إلى ليبيا.  وهو ما يثير حنق “الإسرائيليين” كثيراً.   وهو ما يعززه قول مائير دغان، في محاضرته المذكورة أعلاه، أن “سقوط  نظام بشار الأسد في سوريا مصلحة إسرائيلية، لأن ذلك سيوقف المساعدات عن حزب الله، ويضعف نفوذ إيران ويعزز المعسكر السني في سورية والعالم العربي، وهذا يصب في مصلحة إسرائيل إستراتيجياً” (أنظر العرب اليوم في 10/5/2011).

 

نعم، إن أي بوصلة لا تشير إلى أولوية التناقض مع الطرف الأمريكي-الصهيوني في هذه المرحلة من تاريخنا هي بوصلة ملغومة أو مخترقة أو تائهة في أحسن الأحوال، ولكن إعادة طرح قضية فلسطين، على خلفية الحراك الشعبية العربي المفضي إلى تغيير الرؤوس فحسب، أو إلى الحروب الأهلية والتدخل الخارجي، لا يعادل طرح قضية فلسطين بصورة صحيحة بالضرورة.  وليست لنا أدنى مصلحة في إعادة إنتاج الثورات الملونة فلسطينياً، التي آلت إليها التحركات الشعبية عربياً.   فإن ذلك عندها يكرس تجميد التناقض مع الإمبريالية والصهيونية بدلاً من أن يحييه. 

 

المسيرات الشعبية إلى الحدود مع فلسطين فكرة رائعة، خاصة عندما نرى “ثورات” عارمة تبتعد قدر الإمكان عن التعرض للسفارات الصهيونية التي لا تبعد أكثر من بضعة كيلومترات عن أماكن احتجاجها، ولكن المسيرات إلى فلسطين على أي أرضية، وتحت أي عنوان؟  هذا هو السؤال…  وقد تعلمنا من تجربة الحراك الشعبي العربي مؤخراً أن الحراك العفوي المفتقد إلى وعي وتنظيم سياسي سريعاً ما يخترق ويصبح عرضة للمساومات الانتهازية من قبل القوى الأكثر تنظيماً.   

 

ولا أقول أن علينا أن نحمل السلاح وننطلق للقتال الآن وفوراً باتجاه الحدود مع فلسطين، قبل أن تنضج الظروف لمثل هذا، وعلى رأس تلك الظروف تغيير حقيقي للأنظمة، لا لرؤوسها فحسب، بل أقول أن المسيرات باتجاه فلسطين يجب أن تتمتع بوضوح سياسي للرؤيا على الأقل.  وهذا يعني أولاً أن نؤكد: 1) أن ما جرى هو احتلال، لا يزال قائماً، لا مجرد حدث مؤلم من الماضي، 2) أن اللجوء هو نتاج ذلك الاحتلال، ولم يهبط اللجوء من السماء علينا كالصاعقة فجأة لا يعرف أحد من أين، 3) أن معالجة اللجوء تكون بإزالة أسبابه وهي الاحتلال، 4) أن العودة بالتالي لا تكون بدون تحرير، 5) أن العودة تنبني على الحق العربي التاريخي بأرض فلسطين، وليس على القانون الدولي أو التوسل أو “الفهلوة” بمحاولة الحصول على جنسيات “إسرائيلية” للاجئين، الخ… 6) أن الاحتلال جاء لتهديد الأمة العربية برمتها، لا الفلسطينيين فحسب، ومن هنا فإن التحرير مسؤولية كل الأمة، لا الفلسطينيين وحدهم، 7) أن السلام مع العدو الصهيوني بالتالي يتضمن استحقاقاً ضرورياً هو القبول بتوطين اللاجئين خارج فلسطين التاريخية، ولذلك فإن إسقاط خيار التوطين يعني بالضرورة إسقاط المعاهدات مع العدو الصهيوني وأي توجه للتفاهم معه.

 

وتنبع أهمية هذه الثوابت فيما يتعلق بقضية اللاجئين الفلسطينيين من أنها تحمي الحراك السياسي من الانزلاق إلى مستوى الثورات الملونة التي تعيد إنتاج التبعية والتطبيع في قالب “ديموقراطي” أو “دستوري” أو “قانوني دولي”.   أما معادل الثورة الملونة، التي تحيد التناقض مع الطرف الأمريكي-الصهيوني، في حالة اللاجئين الفلسطينيين، فيقوم على طرح قضيتهم كقضية “حق” للعودة، بمعزل عن التناقض مع العدو الصهيوني، أو في سياق الحلول السياسية.  ولعل أخطر شكل لاختراق وعي اللاجئين اليوم، أو الوعي المحيط بقضيتهم، يقوم على ربط “حق” العودة بالقرار 194. 

 

في البداية نؤكد أن ربط القضية الفلسطينية بالقرار الدولي هو جريمة بحد ذاته بعد تجربتنا التاريخية مع القرار الدولي عربياً وفلسطينياً.  أما نشر الأوهام حول قدرة القرار الدولي 194 على تحقيق “العودة” فيعني تعويم قضية اللجوء الفلسطيني على سطح مستنقع “الشرعية الدولية”.  بجميع الأحوال، سبق أن كتبت وكتب غيري بالتفصيل لماذا لا يحقق القرار 194 “حق” عودة ولا من يحزنون.  وهو قرار لا يتناول “حق” عودة اللاجئين، إلا لماماً، في فقرة واحدة من أصل خمس عشرة فقرة، وفي تلك الفقرة، الحادية عشرة، لا يتناول “حق” العودة إلا بالتوازي مع خيارات أخرى، مثل التعويض والتوطين، ولا يحدد إذا كان المقصود اليهود العرب مثلاً أم من، كما أنه يربط العودة برغبة اللاجئ بالعيش بسلام مع جيرانه، أي بما إذا كان يشكل خطراً أمنياً أم لا، ويرهن تحديد ذلك بالسلطات المسؤولة، أي سلطات الاحتلال، وليس حتى بالأمم المتحدة، وهنالك تأويلات صهيونية وغربية للقرار تعتبر أن القرار يشمل اللاجئين عام 48 لا أولادهم ولا أحفادهم، الخ… مما يمكن أن يجده ما يبحث عن الكتابات التي تفند ربط قضية العودة بالقرار 194 خاصة، أو القرار الدولي عامة.

 

لذلك أصر أن التوجه للأمم المتحدة، تحت عنوان تطبيق القرار 194، يوم 15 أيار، أو المسير تحت عنوان القرار 194، هو اختراق سياسي لقضية اللاجئين، يحول قضيتهم إلى ثورة ملونة ويهيئ لإجهاض العودة، وبالتالي للتوطين، عندما يضعها في هذا القالب.   وثمة مشكلة حقيقية في المراهنة على القانون الدولي، وما يسمى “الشرعية الدولية”، بعد كل التجربة التاريخية للشعب العربي الفلسطيني معهما. 

 

ألا فليذهب القانون الدولي و”الشرعية الدولية” إلى الجحيم، وإذا لم يمكن التوجه نحو حدود فلسطين، فالأولى التوجه نحو السفارة الصهيونية.  فالتوجه نحو السفارة يثير التناقض مباشرة مع قضية التطبيع (ولا يمثل اعترافاً بها على ما يزعم أنصار “الشرعية الدولية”).  فالسفارة هي خط تماس مع المعاهدات وكل العلاقات مع العدو الصهيوني، ومع الأنظمة ومن يروج لمثل تلك العلاقات، أما الاعتراف بالعدو الصهيوني فيمارسه من يطرح القرار 194 الذي تم تبنيه أصلاً للترويج للسلام والاعتراف المتبادل والتفاوض ما بين العرب والصهاينة.

 

أخيراً، يسيء كثيراً لنشاطات ومسيرات ذكرى احتلال فلسطين أن نرى كل مجموعة تغني على ليلاها، بشكل مشتت، يعكس عدم قدرتنا على التنسيق فيما بيننا، كما هي الحال في الساحة الأردنية بالتحديد، فيا حبذا لو تمكنا من تنظيم فعالية واحدة على الأقل يشترك فيها الجميع، اقترح أن تكون يوم 15 أيار نفسه، بعيداً عن الأمم المتحدة طبعاً.

 

وهو يوم 15 أيار بالمناسبة، وليس 15 مايو، وقد بذل أجدادنا جهوداً كبيرة في تكريس المصطلحات العربية بعيداً عن الغربية، فلا شأن لنا باستخدام تعبير غربي مثل “مايو” (للسباحة مثلاً؟) بالأخص عند الحديث عن ذكرى احتلال فلسطين.

Tagged in :

الصورة الرمزية لـ ramahu

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


بالمختصر

تعتبر لائحة القومي العربي كل الإرث القومي العربي إرثاً لها، وتحاول أن تبني على منجزاته وإيجابياته وأن تتعلم من أخطائه وسلبياته، وتتميز عن غيرها على هذا الصعيد أنها تتبنى كل الرموز والإنجازات القومية سواء كانت ناصرية أو بعثية أو قومية يسارية أو قومية إسلامية، ولهذا فإن مشروعها هو بناء التيار القومي الجذري الذي يستطيع أن يواجه تحديات القرن الواحد والعشرين وأن يحقق الأهداف القومية الكبرى. فهي ترفض التقوقع في الماضي أو الدخول بأثر رجعي في صراعات داحس والغبراء بين القوميين العرب التي انتشرت في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات مما أسهم بإضعاف التيار القومي في الشارع العربي..