Wikileaks “ويكيليكس” موقع إنترنت عالمي لتسريب الوثائق والمعلومات السرية وراء التشريع الجديد
د. إبراهيم علوش
العرب اليوم، 22/6/2010
على التخوم الفاصلة ما بين “الديموقراطية” كقناع للغزو والتفكيك والفتن والدمار الشامل، والديموقراطية كقيمة أصيلة في الفكر الغربي، كثيراً ما تنشأ مناطق رمادية، ومستنقعات آسنة، تنبت منظمات التمويل الأجنبي على ضفافها كخضراوات الدِمَن. فهناك، من جهة، دولٌ إمبريالية وشركات كبرى جعلت من الديموقراطية وحقوق الإنسان وحرية الفكر والتعبير رايات حربها التي ترفعها فوق حاملات سفنها أو على رؤوس الحراب لكي تفكك الدول المركزية في العالم الثالث ولتجعل الحركات والمشاريع الوطنية الكبرى أثراً بعد عين؛ وهنالك، من جهةٍ أخرى، تراثاً حقيقياً في الفكر والمجتمع الغربي يتخذ من الديموقراطية وقيمها ومفاهيمها مرجعية له، ولو في ظل قيد عنصري بغيض أحياناً يقصر الحقوق الديموقراطية على البيض أو اليهود فحسب.
هذا الغموض بين “الديموقراطية” كقناع، والديموقراطية كقناعة، يبقى سلاحاً ذا حدين، يؤذي من يستخدمه أحياناً، بقدر ما يفيده في ترسيخ مشروعية النظام السياسي الذي يزعم أن مهمته الحضارية تقتضي نشره في العالم بقوة القنبلة والدولار. وكما تصبح محاكمة جندي واحد ارتكب جريمة في العراق غسلاً وتبييضاً لسياسة الغزو نفسها، كذلك يحتاج النظام الرأسمالي إلى آليات تدعم استقراره وتمنع تخثره، فلا بد له من “حجامة” سياسية يخرِج بها الدم الفاسد لكي يجدد شباب النظام وحيويته… ما برحت تغير الشخوص ولا تهدد النظام. فتلك هي حدود الديموقراطية الغربية!
ومن هنا أهمية الإعلام كسلطة رابعة. وفي عالم اليوم، بات أهم إعلام، بشكل متزايد، هو إعلام الإنترنت. وباتت بعض مواقع الإنترنت ذات وزن عالمي تسهم في تشكيل الرأي العام وصنع السياسات. ومن بين تلك المواقع، بات يبرز بشكل متزايد دور موقع wikileaks “ويكيليكس”، وهو موقع لا يمت بصلة لموسوعة ويكيبديا الشعبية المعروفة، مع أنه يقتبس نمطها وشيئاً من اسمها. وتعبير “ويكي”، في أول جزء من كلمة ويكيبيديا أو ويكيليكس، يعود فقط للبرنامج الذي يتيح لمستخدمي صفحة أو موقع ما أن يبنوه ويطوره متعاونين باستخدام أدوات تفحص الإنترنت العادية والبسيطة. وكلمة ويكيليكس تتألف من كلمتين، ويكي، التي سبق شرحها، وليكس، جمع ليك leak، وتعني تسرب، والمقصود هنا تسريب المعلومات والوثائق الخاصة (السياسية) والسرية، وحتى الصور والفيديوهات، عبر مستخدمي موقع ويكيليكس الذي يصبح هكذا منجماً مجانياً للمعلومات السرية بجهود كل من يملكها ويستعد لكشفها علناً.
وهي فكرة رهيبة بلا أدنى شك قد تزعزع وجدان كل من يمكن أن يتضرر من كشف تلك المعلومات. وفي العام الماضي، لفت نظري أكثر من صديق ل”ويكيليكس” مشكورين، حتى تبنى البرلمان الأيسلندي بالإجماع في 15/6/2010 تشريعاً اسماه “مبادرة الإعلام الحديث الأيسلندية” لحماية وشاة المعلومات السرية حول العالم، خاصة عبر الإنترنت، وتعزيز التحقيقات الصحفية، بتأثير الدور الذي يقوم به موقع ويكيليكس. ولهذا التشريع قصة خاصة بجزيرة أيسلندا الأوروبية الصغيرة سنعود إليها بعد قليل. لكن لا بد، في البداية، من التعريف بموقع ويكيليكس الذي فرض نفسه على المشهد السياسي والإعلامي العالمي:
تأسس الموقع عام 2006 من قبل منظمة دولية غير حكومية (وغير معروفة) مقرها السويد، وأطلق رسمياً في بداية عام 2007، لينطلق كالصاروخ بعدها بين مواقع الإنترنت، وليعلن بعد عام من تأسيسه عن امتلاكه لأكثر من مليون ومئتي ألف وثيقة. ويشير الموقع بوضوح أن وراؤه منشقين صينيين.
ومن الواضح أن توقيت إطلاق الموقع في عام 2006/2007، في ظل الفترة الرئاسية الثانية لجورج بوش، ونهجه بكشف ستر الأنظمة المركزية، خاصة الصين تلك القلعة الحصينة والمستعصية على الولايات المتحدة، خاصة من ناحية المعلومات، جاء بشكل موجه سياسياً وأمنياً. وليست تلك نظرية مؤامرة بأي شكل من الأشكال. ففي القسم العربي من ويكيليكس، نجد التعريف التالي، نقلاً عن “العرب” في 11/1/2007، التي تنشر في الأراضي المحتلة عام 48، وننسخه مباشرةً كما يستطيع أن يرى من يرغب:
“يتحرك المسؤولون عن موقع “ويكيليكس” (WikiLeaks) لجمع جميع الملفات الضائعة أو المحظورة، التي تتسرب من الأرشيفات السرية حول العالم أو من المستعملين مجهولي الهوية، ثم نشرها بحذافيرها على الموقع www.wikileaks.org .
“ويكمن هدف “ويكيليكس” في محاربة تلك الدول التي تمارس السياسات القمعية. وحسبما يفيده مسؤولو هذا الموقع فإن الدول التي تقمع حريات الإنسان موجودة بخاصة في الصين وروسيا والشرق الأوسط وآسيا الأوروبية ودول أفريقيا شبه الصحراوية. لكن الموقع سيعمل أيضاً على مساعدة شعوب الدول الغربية، عبر نشر المعلومات التي يرسلها الأوروبيين حول التصرفات الخاطئة الصادرة عن حكوماتهم أو الشركات المتعددة الجنسيات. هكذا، يريد هذا الموقع نشر الديموقراطية والشفافية حول العالم.“
(انتهى الاقتباس). “محاربة تلك الدول التي تمارس السياسات القمعية”: الصين.. روسيا.. “الشرق الأوسط”.. الخ… لا تعليق!
ونجد تعريفاً أخر بالموقع نقلاً عن السفير اللبنانية في 11/2/2007 يقول: “وبالرغم من أن الموقع يؤكد أن مؤسسيه هم من المنشقين الصينيين وبعض علماء الرياضيات والتكنولوجيا من الولايات المتحدة الأميركية، تايوان، أوروبا، استراليا وجنوب أفريقيا، إلا أن بعض المحللين يرون أن المخابرات الأميركية هي التي تقف خلفه.”
“يعتمد الموقع بصورة كاملة على المساهمات الطوعية لمحتواه. ويدعي انه «سينقل إلى العالم كل ما لا يمكن للضمير السكوت عنه وتخفيه سرية المؤسسات بشكل ظالم…». ليكون «المتنفس لكل مسؤول حكومي ولكل موظف حكومي ولكل عامل في شركة يطلع على معلومات محرجة تريد المؤسسة إخفاءها ولكن الجماهير في حاجة لمعرفة ذلك». ويقول انه سيكون آمنا ولن يمكن الوصول إلى المساهمين مما يتيح للناس الإعلان عن المخالفات والأخطاء دون الخوف من افتضاح أمرهم. “
الصين، طبعاً، تحظر الموقع. وقد تلقى الصحفي الصيني شي تاو حكماً بالسجن لعشر سنوات عام 2005 لتسريبه بريداً الكترونيا حكومياً يتعلق بذكرى أحداث ساحة تيناميان عام 1989.
ولم يكن موقع ويكيليكس معروفاً بدرجة كبيرة قبل عام 2009. بالرغم من ذلك، كان من بين التسريبات المعلوماتية البارزة التي نسبت إليه قصة عام 2006 عن قرار الشيخ حسن ظاهر عويس في الصومال، قبل انضمامه للحكومة، اغتيال ممثلي الحكومة الصومالية، وهي القصة التي لم يتم التأكد منها، وقصة الفساد في عائلة الزعيم الكيني السابق دانييل أراب موي عام 2007 التي أثرت على نتائج الانتخابات الكينية، ونشر كراس أساليب التحقيق في معتقل غوانتنامو في نفس العام، وقصة فساد في بنك سويسري هو جوليوس باير عام 2008، ومراسلات البريد الالكتروني الخاصة بالمرشحة الرئاسية الأمريكية سارة بيلين عام 2008، وسجلات عضوية الحزب القومي البريطاني عام 2008 ومجددا عام 2009، وغيرها عدد من القصص الأخرى.
وفي نهاية عام 2009، بدأ موقع ويكيليكس يواجه مصاعب مالية، وصودرت أصوله، وبدأ يواجه مصاعب مع بعض الدول وأجهزة الأمن الغربية، في أستراليا مثلاً على ذمة الموقع. واستراليا هي بلد محرر موقع ويكيليكس الصحفي جوليان أسانج، مبرمج الحاسوب، والناشط السياسي في الفضاء الافتراضي (نعم، ثمة نشطاء سياسيون حقيقيون في الفضاء الافتراضي!)، والحائز على جائزة منظمة العفو الدولية- بريطانيا للإعلام.
وفي عام 2010، في خضم أزمته المالية، وبعد خروجه منها، بدأ موقع ويكيليكس يوجه ضربات إعلامية شديدة البأس للدول الغربية نفسها، وهو الأمر الذي يحتاج لتفسير، خاصة في ظل الخلفية السياسية المشبوهة لتأسيس الموقع. هل قطع التمويل عنه فانقلب السحر على الساحر، أم أن الأمر جزء من خطة لنيل المصداقية لاستقطاب أسرار الدول المعادية للولايات المتحدة وحلف الناتو حول العالم؟! لن ندخل في هذه المتاهة بلا تسريبات معلوماتية من داخل ويكيليكس، موقع التسريبات المعلوماتية، وسنتركها للزمن، وللقارئ، وربما لمعالجة أخرى إذا توفرت مثل تلك التسريبات. لكن فلنذكر الجميع أن موقع ويكيليكس هو المسؤول، في 5/4/2010، عن تسريب الفيديو الذي يظهر المجزرة التي ارتكبتها قوات الاحتلال الأمريكي بالعراق بطائرة مروحية في 12/7/2007 في بغداد باثني عشر شخصاً بينهم مراسلي وكالة رويترز سعيد شماغ ونمير نور الدين..
قبل إطلاق ذلك الفيديو بقليل، في 15/3/2010، نشرت وزارة الدفاع الأمريكية تقريراً يهاجم موقع ويكيليكس، ويضع خطوطاً عريضة لتهميشه، ومعاقبة مسربي المعلومات. وبالفعل، تم في أيار 2010 اعتقال ضابط الاستخبارات العسكرية الأمريكية برادلي ماننيغ بتهمة تسريب فيديو مجزرة الطائرة المروحية في بغداد سابق الذكر، وفيديو أخر لمجزرة غراني في أفغانستان في أيار 2009، ضد المدنيين الأفغان، زائد 260 ألف مراسلة ديبلوماسية أمريكية لموقع ويكيليكس، وهو الرقم الذي ينفيه الموقع.
وفي أيار 2010، ثمة تقارير صحفية أن محرر الموقع جوليان أسانغ تم سحب جوازه الأسترالي، وفي 11/6/2010 تم إلغاء مشاركته في مؤتمر بالولايات المتحدة بسبب حكم باعتقاله لو وطأت قدماه أرضها. وثمة تقارير أخرى عن اعتقالات ومطاردات لمتطوعي ويكيليكس الذين يفترض أن أحداً منهم لا يتقاضى راتباً!
فماذا حدث بالضبط؟ هل انقلب السحر على الساحر، أم أن كل ما يجري جزءٌ من خطة لتلميع موقع ويكيليكس ومنحه المصداقية؟ الله أعلم.. المهم أن جوليان أسانغ يقيم رسمياً في أيسلندا منذ 30/3/2010، وقد نجح بإقناع البرلمان الأيسلندي بسن قانون يحمي مسربي المعلومات للإنترنت بالإجماع..
وتلك قصة بحد ذاتها. فقد كان موقع ويكيليكس قد كشف عبر وثائق مسربة أن أحد أكبر البنوك في البلاد، بنك “كوبثنغ” الأيسلندي، قد قدم قروضاً ضخمة لبعض مالكيه، وتم مسح كثير من تلك الديون طبعاً مع الانهيار المالي الذي أصاب البلاد مع الأزمة المالية الدولية عام 2008! وعندما حاولت محطة تلفزيون RUVأن تبث القصة، تمكن البنك عبر المحاكم في آب 2009 من منع المحطة من تناول الموضوع. وبما أن الأيسلنديين كانوا من أكبر المتضررين من الأزمة المالية الدولية، فقد اعتبروا أن تلك المعلومات لو كشفت في أوانها لأمكن التخفيف من وطأة الأزمة على الأقل، ومن هنا التعاطف الشعبي والبرلماني مع القانون الذي يحمي وشاة المعلومات على الإنترنت. وقد غاب اثنا عشر نائباً عن الجلسة، لكن أحداً من الحاضرين لم يجرؤ على التصويت ضد القانون الذي يحمي وشاة المعلومات، ليس فقط في أيسلندا، بل عالمياً. فهل تلك دعوة مجانية لموظفي القطاع العام والشركات الكبرى حول العالم، ممن يملكون معلومات ذات شأن، للحصول على لجوء سياسي في أيسلندا، ثالث أعلى دولة في مؤشر التنمية البشرية (رفاهية الإنسان) في العالم؟!
اترك تعليقاً