د. إبراهيم علوش
العرب اليوم 15/6/2010
في السياسة، كما في الثقافة والفن، ثمة أنواع من المعارضة والنقد هي في الحقيقة من أشد أنواع الموالاة لأن دورها الحقيقي يتلخص بإجهاض أية معارضة جدية أو إحباطها. وفيلم “منطقة خضراء” Green Zone، المحسوب كأحد الأفلام المناهضة للحرب على العراق، هو في الواقع واحدٌ من تلك الأعمال الفنية الهادفة لتبييض وجه النظام العالمي الجديد، ومسح جرائمه، بإقناع المشاهد بأن القوى الخيرة داخل النظام دوماً قادرة في النهاية على استعادة توازنه ودفعه للسير للغرض الذي أقيم من أجله: الحق والخير والجمال.
فيلم “منطقة خضراء” Green Zone، الذي صورت أجزاء كبيرة منه في المغرب، يأخذ اسمه طبعاً من تلك المنطقة المحصنة والمعزولة وسط بغداد، بكيلومتراتها المربعة العشرة، التي تشكل مقراً للاحتلال والنظام العميل في العراق. وقد أطلق الفيلم على شاشات العرض في 12/3/2010، وسوف يطلق رسمياً على القرص المدمج DVD في 29/6/2010. وهو من بطولة الممثل الأمريكي المعروف مات ديمون Matt Damon، وقد أخرجه البريطاني بول غرين غراس وأنتجته استديوهات يونيفرسال، إحدى أهم ست شركات إنتاج سينمائي في هوليود. وبلغت موازنة الفيلم مئة مليون دولار، ما عدا أربعين مليوناً للتسويق، وبلغت عائداته بعد شهرين بالضبط من إطلاقه حوالي 114 مليون دولار، أي أن فيلم “منطقة خضراء”، مثل معظم الأفلام الأمريكية التي عالجت حرب العراق، هو حتى الآن فيلم خاسر تجارياً، مع العلم أن أكثر من ثلثي عائداته جاءت من خارج الولايات المتحدة الأمريكية.
بيد أن الفشل التجاري لا يعني بالضرورة الفشل السينمائي، كما رأينا في حالة فيلم “خزانة المصابين”، أو “خزانة الألم”، كما يسميه البعض، وهو الفيلم الفاشل تجارياً والمغمور سينمائياً الذي نال جائزة أفضل فيلم لعام 2009. فالنجاح قد يتحول إلى فشل، كما رأينا في فيلم “أفاتار”، والفشل قد يتحول إلى نجاح، كما رأينا من فيلم “خزانة المصابين”، إذا ما قررت القوى السياسية –الصهيونية- النافذة في هوليود ضرورة ذلك. ومن السابق لأوانه التنبؤ بما إذا كان فيلم “منطقة خضراء” سيرشح لجوائز سينمائية ذات شأن، لكن مات ديمون، بطله الرئيسي، سبق أن نال جوائز سينمائية كبرى، ورشح مخرجه بول غرين غراس لبعض تلك الجوائز، على فيلمي “بورن” Bourne اللذين سبق أن عملا فيهما معاً.
إذن تم حشد أسماء لامعة ورأس مال كبير لفيلم “منطقة خضراء”، الذي تم تصوير أجزاء منه في المغرب، والذي أخرجه بريطاني ومولته شركة هوليودية أمريكية، والذي نال اهتماماً كبيراً من النقاد… وهو فيلم أكشن وإثارة يروي قصة ضابط أمريكي هو روي ميللر (الممثل مات ديمون) كان مكلفاً بتقصي مواقع أسلحة الدمار الشامل المزعومة في العراق بعد الاحتلال عام 2003. وهي قصة ضابط حقيقي في الجيش الأمريكي، كلف بنفس المهمة في الواقع، هو الضابط ريتشارد مونتي غونزاليس، وقد تم استئجاره لمدة عامين كمستشار فني لفيلم “منطقة خضراء”- وهي بالمناسبة واحدة من أقوى نقاط الأفلام الأمريكية عامة، ومن أهم أسباب تفوقها، وهي حشد فرق المستشارين والخبراء العارفين بموضوع الفيلم الهوليودي لإعطائه مسحة من الواقعية تجعل المشاهد يعيش الدراما كأنها حقيقة!
المهم يدرك الضابط ميللر بعد بضعة جولات أن ثمة خلل في المعلومات الاستخبارية التي يتحرى بناءً عليها عن مواقع أسلحة الدمار الشامل المزعومة في العراق. ينقل تحفظاته لرؤسائه، لكن يتبين أن لديهم اجندات خفية، منها الإدراك الدقيق أن عدم دقة المعلومات الاستخبارية حول أسلحة الدمار الشامل يفقد غزوهم العراق أحد أهم ذرائعه! إذن لا بد من الاستمرار بالبحث عن أسلحة دمار شامل حتى لو لم تكن موجودة، لنستشف من اللقطة الأخيرة من الفيلم أن آبار النفط هي الموضوع الحقيقي للغزو.
حتى الآن لا مشكلة طبعاً! فكشف كذبة أسلحة الدمار الشامل مهم لمعارضي الحرب على العراق في الغرب. لكن المسالة ليست بتلك البساطة. إذ ينشأ صراع فوراً على خلفية بحث الضابط ميللر عن أسلحة الدمار الشامل في العراق بين قوى الخير وقوى الشر. أما قوى الشر فتتمثل بضابط الاستخبارات العسكرية الأمريكية المسؤول عن العراق، كلارك باوندستوون، وأما قوى الخير، الداعمة لكشف كذبة أسلحة الدمار الشامل، فتتمثل بضابط وكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA المسؤول عن محطة بغداد، مارتن براون. وفي النهاية، ينجح الضابط ميللر، بالتعاون مع مارتن براون، بكشف الحقيقة والانتصار على كلارك باوندستون. ويشير أحد النقاد أن البطل غير المعلن للفيلم، الذي يظهر بأقصى ما يمكن من الإيجابية فيه، هو مدير محطة الCIA في بغداد، مارتن براون!
ويشير نقادٌ آخرون أن شخصية مارتن براون مبنية في الواقع على شخصية جاي غارنر، أول حاكم يعينه الاحتلال في العراق الذي حل محله بول بريمر بعد ثلاثة أسابيع فقط. أما شخصية كلارك باوندستوون، فمبنية على شخصية بول بريمر، رئيس مجلس الحكم الانتقالي في العراق!! والخلاف بين الشخصيتين يظهره الفيلم كصراع بين الخير والشر، ليس فقط حول كذبة أسلحة الدمار الشامل، بل أيضاً حول مسألة حل الجيش العراقي، التي ينتقدها الفيلم، معتبراً إياها سبباً رئيسياً في التمرد والحرب الأهلية التي خلق شروطها الاحتلال في العراق.
مرة أخرى قد يبدو مثل هذا الموقف معارضاً للحرب، لولا أن شخصية أخرى، الجنرال محمد الراوي، وهو ضابط كبير في الجيش العراقي وعضو في الحلقة الداخلية للحكم في ظل صدام حسين، الجنرال محمد الراوي، يظهر منذ بداية الفيلم وكأنه يبلغ ضباطه بأن لا يقاوموا الأمريكان بناءً على صفقة ما بأن يسلموهم الحكم! ونكتشف فيما بعد أن لقاءات جرت بين الجنرال الراوي، الذي يمثل دوره “الإسرائيلي” إيغال ناعور، وكلارك باوندستوون في الأردن، اتفق فيها على تفاهمات معينة بينهما، وأبلغه الراوي خلالها أن برنامج أسلحة الدمار الشامل العراقية تم إيقافه منذ نهاية حرب الخليج الأولى…
إذن حل القوات المسلحة العراقية وأجهزة الدولة يصور على أنه اجتهاد خاطئ جعل مهمة الاحتلال أكثر صعوبة، وسهل سيطرة القوى المرتبطة بإيران على العراق، وتوجد في الفيلم بالمناسبة شخصية مقابلة للعميل المزدوج أحمد الجلبي، وهو ما يعكس استنتاجاً وصله بعض الأمريكيين في ظل تصاعد التنافس مع إيران على العراق، دون أن يصلوا إلى استنتاج أن احتلال بلد، وحل قواته المسلحة، واعتقال رئيسه واغتياله، الخ… هو مجموعة من الانتهاكات الفاضحة لكل الأعراف من الطبيعي أن تؤدي لمقاومة مسلحة…
لكن لا، لا بد من اختراع جنرال مقرب من صدام عقد تفاهمات مع الأمريكان حول تولي الحكم، فأوقف المقاومة، وفقط بعدما سعى كلارك باوندستوون لشطب الجنرال الراوي، يبدأ “التمرد”! ف”المعارضة” هنا تتعلق بخلاف حول طريقة إدارة الاحتلال، وليس حول مبدأه. كما أن دس السم في الدسم حول الوجود المزعوم لضباط كبار في الحكم الوطني العراقي يعطلون المقاومة، وانفجار المقاومة فقط بعد شعورهم بأنهم لن يستلموا الحكم بالاتفاق مع الاحتلال، يحول المقاومة إلى صراع طائفي على السلطة في العراق، لا رد فعل طبيعي وضروري على وجود الاحتلال.
وفي النهاية يتم تصحيح كل الأخطاء وغسلها عن طريق البوح على الطريقة الهوليودية، والمهم أن يعترف الإنسان بخطأه، أليس كذلك؟ فماذا يمكنه أن يفعل غير هذا؟ أن يسير على الحائط!!!. وتظهر في الفيلم في سياق البوح، ودور السلطة الرابعة، شخصية الصحافية لاوري دايان، مراسلة صحيفة الوول ستريت جورنال، إحدى كبريات الصحف الأمريكية، التي تتابع قصة أسلحة الدمار الشامل في العراق بهمة وجدية، وهي شخصية تم تصميمها اعتماداً على شخصية الصحافية جودث ميللر في الحقيقة، مراسلة النيويورك تايمز المقربة من إدارة بوش التي أسهمت إسهاماً فعالاً بنشر أكاذيب أسلحة الدمار الشامل العراقية… سوى أن الضابط ميللر، في النهاية، يكشف الحقيقة حول أسلحة الدمار الشامل العراقية عن طريق الصحافة، وهكذا يتحقق غسل الجريمة، وانتهى…
اترك تعليقاً