دياب أبو جهجه
عندما تهاوت التجارب الشيوعية في أوروبا الغربية اعتبر كثيرون أن ما حصل هو انتصار لليبرالية و للنظام الراسمالي و بدأوا ينظرون لنهاية الايديولوجيات و الأفكار. و اذا كنا ممن يرفضون هذا المنطق الذي فندته التطورات منذ ذلك الحين عندما ظهرت على السطح من جديد أزمة الرأسمالية في صورتها الاقتصادية و البيئية و الأخلاقية. الأ انه لا شك لدينا بأن التجربة الشيوعية فشلت بالرغم من أن الرأسمالية لم تنتصر. من غير المقبول القول بأن انهيار المنظومة الاشتراكية كان نتيجة لسوء التطبيق. هذا قول سهل جدا و مردود. يعني لم ينهار الاتحاد السوفياتي لأن الحزب الشيوعي كان فاسدا و قمعيا بل تحول الحزب الشيوعي الى القمع لأن نظرته للدولة كأداة لديكتاتورية طبقة ضد أخرى كانت تحتم عليه أن يحكم بهذه الطريقة. لقد كان القادة الشيوعيين بمعظمهم مخلصين لفكرتهم النبيلة و ذوي نوايا حسنة الا أن الطريق الى الجحيم معبدة بالنوايا الحسنة, فلا تنفع النوايا الحسنة عندما يبنى المنهج على تغييب الانسان و قمعه أمام كهنوت الحزب الواحد و الطبقة المتخيلة.
انه انهيار فكرة و ليس انهيار ممارسة. لا يستطيع أحد أن يقنعنا بأن تيارا استلم الحكم في أكثر من عشرين دولة تتمتع بامكانات بشرية و مادية هائلة و استتب له الأمر و راح ينتج تجربة بناها على منطلقاته الفكرية ثم انهارت كل منظومته و لم يبق منها الا دولة تراجعت عن فكرها (الصين), بأن هذا التيار ذو منطلقات فكرية سليمة. الماركسية كفلسفة لا تزال احدى أهم الطروحات الفكرية خاصة في اطار نقدها و تفنيدها للرأسمالية. هنالك الكثير مما نستطيع أن نتعلمه من ماركس و لينين و تروتسكي و غيرهم من المفكرين العظام. الا أن الشيوعية كحركة سياسية و كمشروع مجتمعي انتهت. لا يستطيع اي كان اليوم أن ينظر لديكتاتورية البروليتاريا و يؤخذ على محمل الجد. و في كل مكان فهمت الأحزاب الشيوعية و الشيوعية السابقة هذا الأمر الا في بلادنا. و هذا لا يفاجئنا أساسا لأن الأحزاب الشيوعية في بلادنا باستثناء حزب أو اثنين, كانت دوما تواجه صعوبات جمة في الفهم و في قراءة الواقع.
فعندما طرح التيار القومي الوحدة القومية كان جواب الشيوعيين العرب “الأممية” و تناسوا أن الأممية في الماركسية دعوة ما بعد قومية و ليس ما قبل قومية. فبدل الأممية ساهم الشيوعيون العرب من خلال محاربتهم للقومية موضوعيا في تثبيت القطرية و الانعزالية و بالتالي تشققاتها الطائفية و المذهبية و الاثنية.
و عندما طرح التيار القومي الاشتراكية العربية من منطلق أن لكل أمة تجربتها الخاصة المنطلقة من ظروفها كان جواب الشيوعيين العرب هو أن الاشتراكية العلمية هي الاشتراكية الوحيدة و هي ذاتها في كل العالم. و تناسوا أن العلمية حسب ماركس نفسه هي استقراء الظروف و الوقائع و ليس البناء على عالم فكري مثالي و فرضه على الواقع فكان أن ساهموا موضوعيا في دعم الاقطاع و الأوليغارشية تحت شعار الاشتراكية العلمية
و عندما دافع عبد الناصر عن الاقتصاد المختلط و عن امكانية وجود راسمالية وطنية و لو في اطار خطة اقتصادية اشتراكية موجهة هاجمه الشيوعيون العرب بحجة أن هذه هرطقة بورجوازية صغيرة و بان الرأسمالية كطبقة دائما كومبرادورية و تناسوا أن الرأسمالية مرحلة تقدمية في بلاد يسودها الاقطاع و بأن البورجوازية طبقة محدثة و ثورية في ظل حكم الأريستقراطية. و ها هم اليوم يرون أن الصين باقتصادها المختلط هي التجربة الماركسية الوحيدة التي استطاعت الاستمرار و التقدم لأنها أنتجت رأسمالية وطنية في ظل نظامها الاشتراكي. و ها هو تشافيز اليوم يطبق تجربة اشتراكية تقدمية مبنية على نفس المبادئ التي طرحها الاشتراكيون العرب و يقول من دون عقد أنه ناصري مع أنه أنجح من عبد الناصر في الموازنة بين الاشتراكية و الديموقراطية.
و عندما طرح القوميون العرب تحرير فلسطين و عروبتها كان رد الشيوعيين العرب هو التحالف الأممي الطبقي بين العمال اليهود و العرب في فلسطين و تناسوا أن لا عمال يهود في ظل الاستعمار اليهودي لفلسطين بل صهاينة يعملون على بناء المستوطنات و المستعمرات و الثكنات و مصالح الكيان الاستعماري و بأن اضفاء الصفة البروليتارية على المستعمر في ظل الامبريالية هي قمة الهرطقة الفكرية. و أنكروا أن كل من يضفي أي شرعية تحت اي مسمى كان على العملية الاستيطانية هو شريك فيها و خادم للامبريالية موضوعيا. و بذلك ساهموا موضوعيا في شرعنة الكيان الصهيوني و لا يزالوا يساهمون اليوم في ذلك من خلال “انفتاح” بعضهم على التعاون مع ما يسمى بالصهاينة التقدميين.
و في خضم الستينيات و هيمنة الفكر الماركسي فيها تقهقر بعض القوميين أمام اغراء هذا الفكر و بدأوا ينظرون للاشتراكية العلمية و لم يطبق من هذا في البلاد التي حكموها الا قمع الحريات باسم أنها حريات ليبرالية سلبية فارغة. فاستنسخ هؤلاء القوميين التجربة الشيوعية في الحكم و في هيمنة الحزب الواحد و قمع الحريات و انتجوا استبدادا شوه صورة الحركة القومية حتى اليوم. هذا لا يعني أن الاستبداد الرجعي اليميني أفضل حالا الا أن ما يعنينا هنا هو نقاش بين التقدميين العرب.
على التقدميين العرب أن يدركوا أن طروحات منظري الحركة القومية العربية ( و نقول الطروحات و ليس تجارب الأنظمة) سواء على المستوى الفلسفي أو على المستوى الفكري كانت دوما أكثر تقدمية من كل الطروحات الشيوعية في بلادنا. لأن الطروحات القومية العربية كانت تنطلق دائما من واقع الشعب العربي في لحظته التاريخية, في ثقافته, في دينه في تراثه و بالتالي لم تكن مثالية تحاول اسقاط مثل عليا على واقع بطريقة كانت لتجعل هيجل فخورا. فالتغيير, أي تغيير عليه أن ينطلق من الظروف القائمة كاطار للحراك التغييري و عليه أن يأخذ بعين الاعتبار القوانين الاجتماعية و الآليات الثقافية و كل ما يشكل الوعي التاريخي و الجمعي للمجتمع الذي يتحرك في اطاره. ان ثورة خارج سياقها الاجتماعي و الثقافي لا بد من أن تفشل .
الفكر الاشتركي العربي المتخلص من المثالية الطوباوية الشيوعية هو الفكر التقدمي القادر على طرح مشروع مجتمعي ينطلق من واقع هذا الشعب و من ظروفه و هذا المشروع الذي رفد الفكر البوليفاري في أميركا اللاتينية عليه اليوم أن يتواصل مع الحركة البوليفارية و يستفيد من تجربتها في التنمية و النهضة على أمل انطلاقة حركة اشتراكية عالمية جديدة لا تجتر تجارب الماضي و انما تبني حراكها على اساس انساني ديموقراطي تعددي. أما من يريد أن يعيش على أيقونات اصبحت جزء من متاحف التاريخ فذلك شأنه.
اترك تعليقاً