د. إبراهيم علوش
كتاب الروائية أحلام مستغانمي الجديد “قلوبهم معنا وقنابلهم علينا”، الصادر في صيف عام 2009 عن دار الآداب في بيروت، هو بالمجمل كتابٌ عن العراق، هدفه بالأساس توظيف الرصيد المعنوي الكبير للكاتبة لدى الجمهور لنبش ذكرى الشهيد صدام حسين وإعمال القلم للتنكيل فيها على الملأ. وهو أمرٌ بات يحجم عن القيام به حتى ألد أعداء الرئيس الشهيد السابقين ممن يرغبون بالبقاء، على الأقل بينهم وبين أنفسهم، ضمن صف المعادين للقوى والدول التي تحالفت على احتلال العراق وتدميره واعتقال رئيسه الشرعي ورفاقه واغتيالهم. وقد كان ذلك بالطبع بعد محاكمات هزلية أبرزت في الوقت نفسه صلابة القائد الشهيد وحدة ذهنه وتمسكه بذاك المبدأ الذي عاش ومات من أجله، حتى اللحظة الأخيرة، أي المبدأ القومي العربي الذي تتدثر فيه الأستاذة أحلام فقط لكي تنعاه وتسقِطه، من الإهداء الذي يقدم “خردة الأحلام” إلى رفاق “عروبة سابقة” حتى “تصبحون على خير أيها العرب” في الصفحات الأخيرة.
الكتاب الذي صدرت منه طبعتان في فترة زمنية قياسية، في تموز ثم في آب 2009، عبارة عن مجموعة مقالات أعيد ترتيبها وتحريرها كانت قد كُتبت خلال مراحل مختلفة. الصفحات الأولى توحي للقارئ بأن الكاتبة ضد بوش واحتلال العراق، حتى أن العنوان “قلوبهم معنا وقنابلهم علينا” يستهدف الأمريكان ونفاق خطابهم فيما قنابلهم تسقط علينا… سوى أن رغبة جامحة سريعاً ما تظهر كالخيط الأحمر عبر الكتاب، بعد الخمسين صفحة الأولى، من أجل الانقضاض على الرصيد الخرافي الذي راكمه القائد الشهيد صدام حسين في الشارع العربي، في حياته وفي مماته، في عزه وفي أسره… وبالأخص في عزته في أسره.
حتى صدام نفسه لم يزعم أنه كان بلا أخطاء. ولكن ثمة فرق بين نقد الأخطاء من موقع الحريص على التجربة وعلى تطويرها، وبين السعي لاغتيال البعد الرمزي الذي جسده صدام، ومحاولة إسقاط أجمل ما فيه، بترداد كل الأكاذيب التي حيكت حوله وتضخيمها ممن تبين فيما بعد أنهم جاؤوا إلى العراق على ظهر الدبابات الأمريكية (وأحلام “تتفهم” الاستعانة بالخارج ضد الديكتاتورية في كتابها بالمناسبة).
كان بإمكان الرجل أن يساوم قليلاً لينقذ نفسه. كان بإمكانه أن يفاوض على إنقاذ حكمه مقابل العمالة أو ما هو أقل منها. كان بإمكانه أن يكون صغيراً وجباناً لا صاحب مشروع وحدوي نهضوي تصنيعي لكي لا يكسب عداوة قوى الهيمنة الخارجية، وأن يسلم مقادير العراق للأجنبي… نعم، ولكي لا يرتكب الأخطاء.
كان بإمكانه أن يرفع الحصار عن العراق لو قبل الانخراط بما يسمى “العملية السلمية”. كان بإمكانه أن يقبل بتوطين الفلسطينيين. كان بإمكانه أن لا يذكر الأمة العربية وفلسطين في لحظاته الأخيرة أو عند النطق بحكم الإعدام عليه. كان بإمكانه أن يمتلك حسابات سرية في الخارج، كما كذب أعداؤه، لا أن يوظف كل ما يملك في خدمة المقاومة. كان بإمكانه أن لا يسهم مع بقية القيادة العراقية في تأميم النفط الذي تتكالب الشركات الأجنبية عليه اليوم. كان بإمكانه أن لا يبتني صناعة عسكرية وأن لا يبتعث العراقيين ليصبحوا علماء مستهدفين تتباكى عليهم الأستاذة أحلام… هذا الطاغية، الديكتاتور، المجرم كان بإمكانه أن يفعل الكثير ليسترضي أعداء الأمة، لكنه لم يفعل. فتلك هي “الأخطاء” الحقيقية التي تثير أعداء صدام. ولو ارتكب الخطايا الوطنية والقومية لما وجدت أعداءه يتحدثون عن أخطائه، ولما وجدت ما تكتبه عنه المستغانمي على الأرجح.
صدام قدم ولديه وحفيده مصطفى شهداء في القتال، وكان بإمكانه أن يختار لهما مصيراً أخر. لكن في سطور ترشح بالحقد بلا أدنى مواربة، تحت عنوان “شاربا الطاغية… وأحذيته”، تلمح الروائية أحلام أن صدام عميل للأمريكان، ولم يكن قد اعتقل بعد، وتتشفى بأن الأمريكيين “تعرفوا على قصي من سجل أسنانه، واستدلوا على جثة عدي من خلال قطع البلاتين التي تم زرعها في رجله”، أما صدام فسيتم التعرف على جثته، حسب رأيها، من حذائه… وقد استغلت مناسبة استشهاد قصي وعدي للكتابة عن أحذية صدام!!
وقد مررت هذه المقتطفات، بالرغم من منسوبها الاستفزازي، لكي أبين الدرك الذي انحدرت إليه الروائية الكبيرة في سعيها لتهديم صورة الشهيد. أما الإصرار على إعادة نشر تلك المجموعة من الاستفزازات في كتاب جديد، في الوقت الذي يستحق فيه غير صدام أكثر من هذا الهجوم الشرس على ذكراه، حتى حسب مقاييس أحلام مستغانمي نفسها، فأمرٌ يدعو المرء للتفكير بعمق حول الدوافع والأجندة السياسية خلف نشر كتاب “قلوبهم معنا وقنابلهم علينا”: من المستفيد من الهجوم على ذكرى صدام وما يمثله الآن؟ العراق والأمة العربية؟ أم الولايات المتحدة وحلفاؤها العرب وغير العرب؟ ألم تجد أحلام مهمة أكثر خطورةً تتصدى لها في الكتابة السياسية العربية المعاصرة، ما دامت قد قررت إصدار كتاب غير روائي عام 2009 أظن أنه الأول لها، سوى إسقاط صدام حسين معنوياً؟! وماذا نفهم من هذا الأمر؟
لكن إسقاط النماذج الوطنية والقومية المتميزة وتكسيرها يبدو أنه هواية قديمة عند الأستاذة أحلام. واعترف مباشرة أنني لست ناقداً روائياً، وأن ما دفعني للكتابة هنا هو البعد السياسي لما كتبته، لكن ثلاثية أحلام مستغانمي (ذاكرة الجسد – فوضى الحواس – عابر سرير) التي ذاعت شهرتها في الآفاق وانتشرت بكثافة بين قطاعات من الشباب العربي بلا أدنى ريب، كانت قد استهلتها بقصة قيام فتاة اسمها أحلام، في الرواية، “بمسح الأرض” معنوياً برجل بعمر أبيها هو خالد بن طوبال كانت يده قد قطعت خلال قتال الفرنسيين مع المقاومة الجزائرية.
وكان خالد بن طوبال إنساناً شريفاً عفيف النفس رفض الدخول في لعبة السلطة والفساد بعد التحرير، وتحول إلى إنسان مرهف الحس يرسم الجسور بيد واحدة. ثم أصبح ألعوبة بيد أحلام، بطلة الرواية وكاتبتها في أنٍ (وهذا له دلالاته بحد ذاته)، فتحول إلى جسرٍ لغرورها الفارغ ولسان حاله يقول: “أنا الرجل الذي حولك من امرأة إلى مدينة، وحولته من حجارة كريمة إلى حصى، فلا تتطاولي على حطامي كثيراً”. وقد هالني التلذذ بتكسير المقاوم الجزائري خالد بن طوبال وقتها إلى درجة دفعتني لإلقاء الرواية جانباً، حتى بدأ انتشارها يطل برأسه تكراراً من خلال المعارف والأصدقاء، مما دفعني لإعادة قراءتها بهدوء بعدها بسنوات لكي أفهم السبب… وهو ليس موضوعنا الآن. ولكن هل كانت أحلام تحاول تكسير أبيها – حتى وهي تهديه الكتاب- من خلال تكسير صديق كفاحه خالد بن طوبال، تماماً كما سعت لتكسير صدام وهي تهاجم بوش وأمريكا؟! أترك الجواب للقارئ، ولها.
نلاحظ هنا، بالرغم من كل نقد أحلام لأمريكا وسياساتها، وهو نقد لا يتجاوز سقفه سقف الحزب الديموقراطي في الولايات المتحدة بالمناسبة، بأنها حين اعتلت المنصة لتتحدث في الجامعة الأمريكية التي دعتها، في بوسطن وميشيغن، راحت تمجد الديموقراطية الأمريكية وتصب جام لعناتها على العرب، كما نرى في ص 145 -148 من الطبعة الثانية.
وهذا التهكم اللاذع على المتطوعين العرب في العراق، و”غبائهم” و”موتهم العبثي”، في أكثر من موضع في الكتاب، يخدم من؟ ألا يوحي بالرغبة بالتشفي من كل المقاومين العرب من الأنبار للأوراس؟! حتى المقاومة العراقية تساويها بالاحتلال وتختزلها في استهداف المدنيين العراقيين، وهو ما تتقوله الميليشيات الطائفية عن المقاومة، وتتناسى دورها في تركيع الأمريكان…
ثم أن أحلام تهاجم الجزيرة، وبالذات برنامج “الاتجاه المعاكس”، في مقالة يفترض أنها لانتقاد فضائية “الحرة”. أما فيديل كاسترو فيتعرض للهجوم أكثر من مرة في كتاب كامل ضد صدام مطلعه الهجوم على بوش. وهي تسقِط العروبة تحت عنوان مهاجمة السياسة الأمريكية دون أن تشير مرة واحدة أن هدف السياسة الأمريكية في المنطقة هو ضرب المشروع الوحدوي التحرري. وإذ تكرر التفسير الاقتصادوي السائد لدى المعارضة في الغرب والذي يربط كل السياسة الأمريكية بالنفط، وبالنفط فقط، فإنها تكشف مدى فقر خطابها القومي الذي تحوله إلى قلبٍ اصطناعيٍ تتحصن فيه إذ تلقي بقنابلها على القوميين وعلى الحلم العربي.
أرفض اللجوء إلى الردح في تناول ما كتبته أحلام عن صدام حتى لو لجأت هي له في تناولها للقائد الشهيد. وما برح القائد العظيم جمال عبد الناصر يتعرض للطعن والهجوم بعد عقودٍ من وفاته وهو ما يؤكد أنه لا يزال حياً ولا يقلل منه بشيء. لكن أحلام مستغانمي إذ تتهكم من موقعها الروائي على روايات صدام حسين، فمن غير المفهوم، درامياً، أن تحاول ذلك الفصل التعسفي ما بين شخصية صدام وبطولة استشهاده التي اجترحها مختاراً كعمر المختار. وإذ تتهكم على ما عانى منه صدام في سجنه، خاصة عبر الصور الملتقطة له داخل زنزانته وهو يغسل ملابسه، فإنها تحاول إقناعنا أن ذلك لا يمثل لحظة صمود بالنسبة له، بل محاولة لإذلالنا كمواطنين عرب من قبل الأمريكان فحسب، وكأن صدام لا علاقة له بالقضية. فكيف يفصل روائيٌ العام عن الخاص بهذا الشكل المفتعل إلا إذا كان الهدف المبيت هو التهجم على صدام؟
باختصار، كتاب أحلام نسخة معربة من خطاب “لا للديكتاتورية، لا للاحتلال” الذي تبنته حركة مناهضة الحرب في الغرب، ومحاولة لإسقاط صدام في الشارع العربي. وفي الذكرى الثالثة لاغتيال رئيس العراق الشرعي صدام حسين، وبعد انكشاف كل الأكاذيب التي روجت للتبرير لاحتلال العراق، لم يعد من المبرر أبداً شن مثل هذه الهجمات على صدام إلا من قبل أصحاب الأجندات غير الوطنية والمرتبطة بالخارج الذين نرجو من أعماق القلب أن لا تكون السيدة أحلام مستغانمي منهم، على الأقل حرصاً على آلاف المعجبين بكتابتها، إن أردنا فصلها تعسفياً عما تكتبه كما تفعل هي.
اترك تعليقاً