د. إبراهيم علوش
لا يشك القاصي والداني أن الاعتداء على المعارض الأردني، والشخصية العربية والإسلامية، ليث شبيلات (أبو فرحان)، صبيحة يوم الأحد الموافق في 25/10/2009 ، كان رسالة، ليس له وحده، بل لكل من تسول له نفسه تجاوز الخطوط الحمراء في مواضيع معينة يتم تحديدها حسب الزمان والمكان ورغبة من يضعونها عادةً.
وما أدراك ما الخطوط الحمراء! فتلك خطوط لا يعلن عنها رسمياً بالطبع، ولا يعرفها إلا من رسموها أو اصطدموا بها … فالمطلوب هو بالضبط أن يستمر المواطن والناشط السياسي بالتكهن عن ماهية تلك الخطوط، عن شكلها ومواضعها وجغرافيتها ولونها، وما إذا كانت حمراء أو صفراء أو خضراء، لأن التكهن يمثل ضابطاً ذاتياً فعالاً كثيراً ما يؤدي إلى وضع المتكهن لخطوط حمراء أضيق بكثير من تلك التي يضعها من يرسمونها عادة، وهذا يعفي رسامي الخطوط الحمراء من تهمة الديكتاتورية ومخالفة الدستور ومصادرة الرأي وما شابه، ما دام المواطن والناشط السياسي يضبط نفسه بنفسه داخل دوائر أضيق كثيراً من الخطوط الحمراء للنظام نفسه، في معظم الحالات…
وربما يصح تعميم تلك الآلية لاستدخال الضبط الذاتي، ولتحويل تكميم الأفواه من نشاط خارجي أمني مباشر إلى نوع من “الصيام الحر” للمواطن عن العمل والتعبير السياسي، وإلى نوع من الشلل النصفي المفروض ذاتياً للناشطين السياسيين، على النظام العربي بشكل عام، وليس فقط في الأردن. وبهذا يمكن أن نحل أحد جوانب لغز عدم تحرك الشعب العربي سياسياً، وأحد جوانب شلل النخب والمثقفين، بالرغم من وجود جوانب أخرى لذلك اللغز ليس هنا مجالها.
بجميع الأحوال، القضية تتجاوز ليث شبيلات إلى من هم في حكم ليث شبيلات، وإلى من يمكن أن يحذوا حذو ليث شبيلات، فالرسالة عامة لفئة محددة من المواطنين “المشاغبين”، وهنالك من قرر على ما يبدو أن يفتح “مدرسة للمشاغبين” ليعيد تأهيلهم فيها بعد امتناعهم الأرعن عن المشاركة الطوعية في الصيام السياسي المفروض ذاتياً على عامة الشعب…
المحير طبعاً أن النظام عودنا تدريجيا منذ “رفع الأحكام العرفية” أن الصيغة الجديدة لعلاقتنا معه تقوم على حقنا النسبي في أن نقول ما نريد وحقه المطلق في أن يفعل ما يريد. ولذلك، فإن ليث شبيلات الذي اعتزل العمل السياسي منذ سنوات، خاصة بعد خلافه الحاد مع بعض أطراف المعارضة، يفترض أن يكون بمأمن من أي عقوبة. وبشكل عام، يمكن أن نقول أن هامش حرية التعبير موجود في ظل النظام الرسمي العربي ما دام ذلك التعبير غير مؤثر ويمكن أن يثير ملل المواطن…
ولكن في تلك اللحظة بالذات التي يمكن أن يشعر فيها المواطن أو الناشط بالطمأنينة بأن كلامه غير مؤثر وغير مفيد وبالتالي يمكن أن يعبر عنه بحرية، تظهر فجأة الخطوط الحمراء لحرية التعبير نفسها، وليس للعمل السياسي نفسه… أي ليس عندما يتعلق الأمر بمظاهرة أمام السفارة الصهيونية في الرابية أو باحتجاج على استيراد الخضار والفواكه الصهيونية أمام وزارة الزراعة مثلاً، وهو الأمر الذي أثبتت التجربة أنه غالباً ما ينتهي بالضرب والاعتقالات. فالقمع هنا إجباري دوماً تقريباً، أما فيما يتعلق بحرية التعبير، فالقمع انتقائي واختياري، وعلى المتكهن أن يجرب حظه مع دولاب الهوى!
وفي هذا السياق نذكر، كما ذكر ليث شبيلات في رسالته المفتوحة إلى وزير الداخلية نايف القاضي، والمؤرخة في 28/10/2009، بأن الاعتداء الجسدي عليه لم يكن الأول، وبأن هناك عدداً من الناشطين والصحفيين المعروفين الذين تعرضوا للاعتداء الجسدي، ومنهم النائب الإسلامي علي العتوم، والشاعر الضرير ماجد المجالي الذي تعرض للخطف والضرب والإلقاء في الفلاة لوحده، والناشط النقابي بادي الرفايعة أمام مجمع النقابات، وياسر أبو هلالة مراسل الجزيرة وهو يغطي المظاهرات أمام السفارة الصهيونية في الرابية، وغيرهم كثر ممن لم يذكرهم أبو فرحان من المعروفين وغير المعروفين…
أما زرع التكهن، وبقاء الفاعل مرفوعاً إلى المجهول، وفتح آفاق العقوبة دوماً على ما هو أعظم، فجزء أساسي من تمرين فرض “الصيام السياسي” ذاتياً على الناس… وهذا أكثر تأثيراً على المدى البعيد في ضبط الشارع، والعمل والتعبير السياسيين، من الضرب والاعتداء الجسدي نفسه، لا بل أنه يقلل من عدد الناس الذين لا بد من ضربهم في النهاية ما داموا مشلولين سياسياً، وما دام الرأي العام قد صودر تماما، وفي نفس الوقت، يستطيع أن يتفاخر النظام أن هامش الحرية لديه أكبر بكثير من غيره من الأنظمة العربية.. ألا يفعل كل نظام عربي ذلك؟!
إذن ليس المهم هو الضرب نفسه بالضرورة، بل تبقى محاولة زرع التكهن والخوف العام هي الأهم، والتكهن قد يحوم حول خطر الاعتقال أو التشهير أو قطع الأرزاق أو الملاحقة أو العزل الاجتماعي وكل ما يمكن أن تتفق عنه قريحة الأنظمة العربية.
اترك تعليقاً