تمر علينا هذه الأيام من جديد ذكرى المجزرة المريعة في صبرا وشاتيلا وضحاياها لا يزالون ينتظرون من يقتص لهم من القتلة ويحقق لهم بعض من العدل، ولكن في عالم تبنى فيه العلاقات على القوة وليس على الحق وفي زمن ضعفنا المزمن والمرضي قد يبدو ذلك أمرا معلقا الى حين.
وتعود بي الذكرى الى عام 2001 عندما كنت لا أزال مقيما في بلجيكا ومن خلال موقعي كرئيس للرابطة العربية الأوروبية وللجنة صبرا وشاتيلا، واكبت عن كثب الدعوى التي رفعناها ضد أرييل شارون ومن عاونه من قتلة في اطار ما عرف حينها بقانون الصلاحية الكونية لجرائم الابادة في بلجيكا والذي سمح بمقاضاة المتورطين في جرائم ابادة وجرائم ضد الانسانية في بلجيكا بغض النظر عن وجودهم فيها أو جنسياتهم.
و لأ أريد أن أسرد هنا القصة القانونية للدعوى ولكنني أريد أن أضيء بشكل مقتضب على بعض الدروس التي تعلمناها وعلى الجانب الانساني والسياسي لهكذا دعاوى. أولا وقبل كل شيء لا بد من أن يفهم القارئ أن بلجيكا لم تقاض شارون كما شاع القول في بلادنا لا بل أن بلجيكا كانت ومنذ اللحظة الأولى منزعجة من الدعوى ومحاربة لها لما تسببه لها من احراج مع حليفتها أمريكا ومع الكيان الصهيوني. القانون الذي اعتمدنا عليه في رفع الدعوى وضع ليس لمقاضاة مجرمي الحرب الصهاينة أو الغربيين بل لمقاضاة مجرمي حرب أفارقة متورطين بالابادة في رواندا. تلك الابادة التي تتحمل فيها بلجيكا مسؤولية تاريخية نتيجة لماضيها الاستعماري الدموي هناك والذي أنتج الانقسام والعداوة بين التوتسي والهوتو. كانت بلجيكا تريد مسح قليل من الدم عن يديها بقليل من الماكياج الحقوقي فأنتج برلمانها هذا القانون. ولذلك عندما قمنا برفع الدعوى ضد شارون ومن معه أحس البلجيك بأن ذلك اساءة استعمال للقانون على الأقل من ناحية وجهته السياسية مع أن القوانين عامة لا تميز بين مجرم وآخر الا أن السياسة التي تنتج القوانين تفعل ذلك دائما. ولذلك بدأت عملية تغيير القانون منذ اللحظة الأولى لبدء الدعوى وتفاعلت بلجيكا ايجابيا مع ضغوطات الصهاينة والأميركان وكما سن برلمانها ذاك القانون الواسع المجال قام بتشذيبه وتعديله باثر رجعي ووضع حدا نهائيا للقضية المرفوعة ضد شارون موصلا رسالة واضـــحة الينا: العدالة ليست حقا للضعفاء بل سيف مسلط على رقابهم، ورقابهم هم فقط. فلا مجال لفصل الاطار القانوني عن الوعاء المجتمعي والسياسي وبالتالي عن توازن القوى في مجتمع ما، وهذا هو الدرس الأول.
الدرس الثاني هو في الانتهازية التي تدخل على قضية مماثلة من أجل أجندات خاصة. فبما أننا كنا بحاجة لمحام من لبنان قمنا عندها بالتواصل مع ش. م. وهو محام معروف في لبنان وانطلق هذا الأخير الى بلجيكا وبرفقته سعاد سرور المرعي الضحية الأساسية في القضية وهي الفتاة التي قتلت عائلتها واغتصبت مرارا وتكرارا وتركت لتموت بعد أن أطلقت عليها النار ولكنها نجت بأعجوبة لتعيش حاملة جراحا جسدية ونفسية لا تشفى. وصل ش.م. مع سعاد التي كان وجهها يتألق سعادة بأمل العدالة الى مطار بروكسل حيث استقبلتهم وكان برفقتي صديقي كمال عوالي أيضا من الرابطة العربية الأوروبية الا أننا تلقينا صدمتنا الأولى في السيارة مباشرة عندما أتحفنا ش.م. بنظرية مفادها بأن القضية هذه لن تنجح الا اذا دعمها ‘الراي العام الاسرائيلي’، وبأنه على تواصل مع ‘ صديقه’ ابراهام بورغ رئيس الكنيست السابق المتشوق لمقاضاة شارون. كان لا بد لنا من ان نختلف مع ش.م. الذي أتى الينا حاملا أمراض الغرور المتفشية في بلادنا وحاملا لنا فكرا تطبيعيا يجعل من هكذا قضية عاملا مشتركا بين عرب يائسين من أجل عدالة وهمية وصهاينة ‘تقدميين’ يدينون شارون وينشدون السلام الدائم والتعايش المزعوم. ولأننا نعرف أن الصهيوني الجيد هو الصهيوني الميت وبأن المعركة معركة وجود مع هذا الكيان اصطدمنا مع الرجل الا أن الجميع في لبنان وقف معه، باستثناء حزب الله، ووصف من قبل كبار الصحافيين والسياسيين بأنه مقاوم بينما تمت محاصرتنا والتضييق علينا. الدرس الثاني كان اذا أننا أبناء مجتمع مبني على مركبات متخلفة من عقد الكبرياء والوجاهة تسفه المناضلين المبدئيين وتعطي مكانة لأبناء البرجوازية ولو كانوا مطبعين.
الدرس الثالث كان يتعلق بفساد الأنظمة العربية وتحديدا السلطة الفلسطينية ومركباتها. فمنذ اليوم الأول انهالت علينا الاتصالات من قبل دوائر متعددة في تركيبة السلطة وفتح تطلب منا التعاون معها لأنها هي المرجعية في هكذا قضية. ووصل الأمر الى درجة التهديد والوعيد وأسمعنا كلاما من نوع ‘هذه قضية وطنية فلسطينية ولا علاقة لكم بها’. وانقسمت الاتصالات الى ثلاثة خطوط رئيسية، سفارة السلطة في بروكسل التي حاولت أن تمسك بخيوط القضية، فرع فتح في لبنان الذي أراد أن يكون المفتاح عنده، ومجموعة قريبة من نبيل أبو ردينة في فلسطين. وكل طرف كان يريد ان يمسك بمفاتيح القضية ليضعها أمام ياسر عرفات ويقبض ثمنها، ثم لا شك بان القضية برمتها ستوضع على الطاولة وتتم المساومة عليها. وعندما رفضنا التعاون مع أي من هذه الجهات حاولت جميعها ضربنا وضرب مصداقيتنا. وأكاد أجزم أنه لولا التغطية الأمنية التي وفرتها لنا المقاومة في لبنان لكنا اليوم في عالم أخر.
الدرس الرابع في تثمير المأساة الانسانية واستغلالها. فعندما افترقت طرقاتنا مع ش.م. قام هذا الأخير بتوظيف فتاة جامعية فقيرة من مخيم شاتيلا وكلفها ببناء علاقة مع الضحايا ودفعهم الى توكيله هو بدلا من المحامين الذين كنا نتعاون معهم. وبالرغم من ذلك قام معظم الضحايا باعطاء وكالة للرابطة العربية الأوروبية ومحاميها للترافع باسمهم في بلجيكا مما دفع ش.م. ومن معه الى استعمال الاغراء المادي ولكن بصورة ذكية جدا. فكان دفع النقود يتم من خلال اعطاء الضحايا مبالغ معينة تحت حجة استصدار جوازات سفر للمشاركة في مؤتمرات في الخارج حول القضية وسمعنا من أكثر من ضحية ‘ قلوبنا معكم ولكن نريد أن نعيش’. ومن يلوم انسانا يعيش في التعاسة المطلقة في بلد يقمعه على كل المستويات اذا ما استغل فرصة كهذه؟ بالتاكيد ليس من شاهد البؤس في المخيمات التي كنا نزورها يوميا خلال تواجدنا في لبنان بينما كان الآخرون يحركون البيادق من مكاتب فخمة مبردة في وسط العاصمة بيروت من أجل تخريب عملنا.
الدرس الخامس في وحدة المعاناة العربية، حيث تبين لنا أن قسما كبيرا من سكان المخيمات هم من اللبنانيين الفقراء وبأن نصف ضحايا المــــجزرة كانوا من اللبـــنانيين وغالبا من مناطق الجنوب اللبناني الفقيرة وهكذا يتحد الدم العربي في وعاء المعاناة والفقر.
الدرس السادس في عدم التعويل على الناشطين الغربيين المؤيدين لفلسطين، لأن معظم هؤلاء ينظرون الى المعركة على أنها قضية صراع حدودي يميلون فيه الى الطرف الفلسطيني ولكن مع الايمان بحق ‘اسرائيل’ بالوجود والبقاء على أرض فلسطين التاريخية. وبالتالي فهم يميلون الى مشاركة أمثال ش.م. رؤيتهم التطبيعية لقضية كهذه حيث يرون فيها فرصة لتقريب العرب من الصهاينة من خلال نبذ المتطرفين من الجانبين أي شارون من جهة ومؤيدي المقاومة من أمثالنا من جهة أخرى. فنحن بالنسبة اليهم مدانون بتهمة التطرف والارهاب تماما مثل شارون والحل يكون بتسويق الحالات التطبيعية الليبرالية أمثال ش.م. ومن على شاكلته.
الدرس السابع في عاطفة الشعب العربي الجياشة والصادقة، فنحن لن ننسى ما لقيناه من دعم في الوطن العربي كله باستثناء لبنان، وتحديدا تعاطف الشعب العربي المصري الكبير مع القضية. سواء من قبل الناس العاديين الذين تبرعوا بمبالغ صغيرة جدا من حاجتهم لمساعدتنا على تسديد كلفة المحامين، أو من الصحافيين الصادقين أمثال الاستاذ فهمي هويدي الذي دافع عنا بالقلم وسهل تواصلنا مع بعض الداعمين أو الأستاذ حمدي قنديل الذي كرس برنامجه حينها ‘رئيس التحرير’ لدعم القضية. والأستاذة أميرة هويدي التي كانت جنديا مجهولا في خدمة القضية. كما لا بد من استذكار دورالأستاذ أحمد كامل مدير مكتب الجزيرة في بروكسل حينها الداعم للقضية.
الدرس الثامن والأخير وهو أن العدالة في هذا العالم مبنية على القوة وبأن لا عدالة للضعفاء بل فقط حق الموت بصمت. أما مصدر العدالة للمظلومين في بلادنا فهو البندقية التي توجه الى صدر العدو الصهيوني وكل ظالم. ان الهاء الشعب العربي بآمال كاذبة لعدالة دولية ما هو الا مضيعة للوقت فلن يحاكم الصهاينة يوما ما على جريمة اقترفوها الا عندما يهزمون ويصبحون من دون غطاء سياسي من القوى العظمى. حتى ذلك الحين لن يحاكم الا أعداء القوى العظمى هذه وسيفلت أصدقاؤها كل مرة من العقاب، الا اذا لحقت بهم بنادق المقاومين.
اترك تعليقاً