التمويل الأجنبي يضعف ويفكك المجتمعات التي ينتشر فيها

الصورة الرمزية لـ ramahu

clip_image002 

 

مراجعة د. إبراهيم علوش

 

كتاب “الاقتصاد السياسي للعولمة”، تحرير نجير وودز وترجمة أحمد محمود، صدر عن المشروع القومي للترجمة في مصر عام 2003، وهو بالأساس من إصدار دار ماكميلن بلغريف في لندن في 7/7/2000 تحت عنوان The Political Economy of Globalization. 

 


ويتألف هذا الكتاب المهم من 240 صفحة في النسخة الإنكليزية وحوالي 290 صفحة في النسخة العربية، وهو يتوزع على ثمانية فصول، وضع كل منها من باحث مختلف، وفصول الكتاب هي:

 

1 ) الاقتصاد السياسي للعولمة، نجير وودز

2) العولمة والجغرافيا الجديدة للاستثمار الأجنبي المباشر، جون أتش داننج

3) التجارة والنزعة الإقليمية والخطر الذي يهدد تعددية الأطراف، ديانا توسي ونجير وودز

4) النقد في عالم معولم، بنجامين جي كوين

5) هل تنكمش الدول، جيفري جاريت

6) العولمة باعتبارها نمط تفكير في الكيانات المؤسسية الفاعلة الكبرى، توماس جيه بيرستيكر

7) المجتمع المدني الكوني، جان آرت شولت

8) التحدي الذي تواجهه المؤسسات الدولية، نجير وودز.

 

ولعل الكتب المهمة تزداد قيمة في المجتمعات التي تقدر القراءة، فقد أطلق كتاب “الاقتصاد السياسي للعولمة” في السوق بسعر 65 جنيهاً إسترلينياً للنسخة الواحدة ذات الغلاف الصلب عام 2000، ويمكن أن يجد القارئ الكريم في شهر آب 2009 نسخة جديدة معروضة للبيع على موقع أمازون للكتب بسعر 181 دولاراً…  النسخ المستعملة أقل ثمناً بالطبع، والحمد لله أن الترجمة العربية أرخص ثمناً من الورق الذي طبعت عليه، ربما لأنها مدعومة، أم أن هذا يدل على قلة التقدير، وبالتالي على قلة الطلب، للمادة البحثية القيمة عندنا؟!

 

بجميع الأحوال تتناول هذه المعالجة الفصل السابع أساساً من الكتاب، وهو فصل “المجتمع المدني الكوني”، لما يحتويه من رؤى محابية للتمويل الأجنبي للمنظمات غير الحكومية وتأثيره الإيجابي في دفع قاطرة العولمة إلى الأمام، من خلال نشوء مجتمع مدني عابر للحدود، ما فوق قومي، وبنفس المقدار، في إضعاف وتفكيك الدول والمجتمعات التي يزدهر فيها نشاط منظمات التمويل الأجنبي…

 

وخلاصة ذلك الفصل أن نمو ما يسميه “المجتمع المدني الكوني” أعاد تشكيل السياسة في تسعينيات القرن العشرين، وشكل صمام أمان حقيقي يساعد على استقرار منظومة العولمة التي لا تتقدم إلا على حساب الدولة وانسحابها من الميدان الاجتماعي والاقتصادي.  ومع ذلك، يعتبر جان آرت شولت، مؤلف ذلك الفصل من الكتاب “أنه لا تزال هناك حاجة إلى قطع شوط طويل كي تتحقق تلك الفوائد تحققاً تاماً”.

 

وقبل الدخول في “المجتمع المدني الكوني”، يسعى الكاتب لوضع تعريف لماهية “المجتمع المدني”، فيعتبر أنه بالرغم من صعوبة وضع جدار فاصل يميز “المجتمع المدني” تماماً عما حوله، فإن “المجتمع المدني” برأيه هو قطاع ثالث من الفعاليات الاجتماعية، مثل المنظمات غير الحكومية والشبكات المجتمعية والنقابات، غير القطاع العام الحكومي وغير القطاع الخاص التجاري، أي كل ما ليس عاماً ولا خاصاً، مع استبعاد الأحزاب من “المجتمع المدني”، لأن هدفها الوصول للحكم والدولة، حسب البعض، دون استبعاد المنظمات الحزبية القاعدية تماماً… ودون استبعاد الغرف التجارية واتحادات رجال البنوك التي تشجع مصالح السوق تماماً…

 

ويخلص الكاتب هنا أن الأنشطة الاجتماعية تعتبر جزءاً من “المجتمع المدني” حين تنطوي على محاولة متعمدة – من خارج الدولة والسوق، وبطريقة منظمة أخرى – لتشكيل السياسات والمعايير والبنى الاجتماعية الأكثر عمقاً.  ف”المحتمع المدني” يوجد حين يُحشد الناس من خلال الجمعيات التطوعية في مبادرات لتشكيل النظام الاجتماعي، حسب رأيه.

 

وبهذا المعنى يتحول “المجتمع المدني” إلى كائن هلامي متعدد الرؤوس يضم كل شيء من المعاهد الأكاديمية والاتحادات التجارية… إلى الاتحادات الإجرامية… إلى النقابات العمالية والمهنية… إلى  المنظمات غير الحكومية بأنواعها… إلى الحملات الشبابية، ومن الذين يودون “دعم المعايير السائدة وتعزيزها”، إلى الذين يودون إصلاحها، إلى الذين يودون تغييرها، فتركيز الكاتب هنا على الشكل لا على المضمون.

 

أما مفهوم “المجتمع المدني الكوني” فنشأ في تسعينات القرن العشرين مع بروز “المنظمات غير الحكومية الدولية” و”شبكات الدفاع المتعدية للقوميات” و”الحركات الاجتماعية الكونية”… وهنا ينطلق الكاتب من وضع تعريف للعولمة يركز فيه على فكرة “عدم الارتباط بالأرض” deterritorialization، ونشوء علاقات كونية وصلات اجتماعية “ليس فيها للموقع الإقليمي والمسافة الإقليمية والحدود الإقليمية تأثير حاسم”… وهنا يركز الكاتب أن هذا لم ينجز تماماً بعد، وبالتالي نحن نعيش في عالم يتعولم وليس في عالم معولم بعد.  ومن هنا يعتبر أن “المجتمع المدني الكوني” هو “المجتمع المدني” الذي: أ – يعالج القضايا العابرة للحدود، ويشتغل بقضايا تتجاوز الجغرافيا الإقليمية، ب – يشمل الاتصالات العابرة للحدود، مثل وسائل الاتصال الحديثة والمؤتمرات الدولية، ج – له تنظيم كوني، ويعطي “منتدى دافوس” وغيره مثالاً على ذلك، ود – يعمل طبقاً لفرضية التضامن المتعدي للأقاليم، مما ينمي إحساساً بهوية جماعية ومصير جماعي يتجاوز الحس الوطني أو القومي، ويكون ذلك بربط الناس عبر الحدود في شبكات على أساس العمر مثلاً، أو المهنة، أو العرق، أو الطائفة، أو التوجه الجنسي، الخ...

 

ولا يعني ذلك طبعاً أن كل منظمة “مجتمع مدني” هي كونية الطابع، بل أن الكونية هي الاتجاه التاريخي… ويقتطف الكاتب هنا بشيء من التحفظ مقولة من كاتب أخر اسمه ليستر سالامون يقول فيها أن “ثورة الجمعيات الكونية مهمة للنصف الأخير من القرن العشرين أهمية ظهور الدولة القومية في النصف الأخير من القرن التاسع عشر”.   لكنه يعتبر أن انتشار “المجتمع المدني الكوني” السريع يعود لكونه مدفوعاً من قبل نفس القوى التي تحرك العولمة عامةً.   كما أن عولمة الوعي كان شرطاً من شروط قيام “المجتمع المدني الكوني”.  أما تفكيك دور الدولة في الرعاية الاجتماعية لمواطنيها خلال الثمانينات والتسعينات، فأعطى مجالاً رحباً لازدهار “المنظمات غير الحكومية”، فملأت “فراغ ما بعد السيادة… الذي يتمثل بقضاء تعدي الحدود على احتكار الدولة للحكم”.  وهو ما تجلى من خلال ازدياد دور المؤسسات الاقتصادية الدولية المعروفة، وبروز دور مؤسسات تابعة للقطاع الخاص تفرض معايير عابرة للحدود مثل “اللجنة الدولية لمعايير المحاسبة”، بشكل مستقل عن أية سلطة منتخبة أو غير منتخبة.

 

أما تأثير “المجتمع المدني الكوني” على السياسة والحكم فظهر من خلال ظهور طبقات حكم متعددة مع فقدان الدول لبعض صلاحياتها لمصلحة قوى ومؤسسات ما فوق وطنية (معولمة)، أو ما دون وطنية (محلية)، مع وجود ارتباط ما بين الجهتين على حساب الدولة، مثلاً: “ارتبط العديد من منظمات المرأة بالاتحاد الأوروبي، والعديد من النقابات المهنية بصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية”… ونقتطف حرفياً: “ويمكن القول أن الجمعيات المدنية منحت من خلال هذا الارتباط مشروعية متزايدة للحكم المتعدي للدول، عمداً أو بدون قصد”.

 

كما برزت “خصخصة الحكم” مما حد من مركزية الدولة في السياسة بعد اكتساب الهيئات غير الرسمية وظائف تنظيمية، كما تزايدت نسبة المساعدات الدولية التي تمر عبر المنظمات غير الحكومية، وباتت المنظمات غير الحكومية تشارك في وفود رسمية في المؤتمرات الدولية.  أما المؤسسات الخاصة مثل فورد Ford فلا تسمح بتمحيص منحها حكومياً، ونشأت ظاهرة الحكم بلا حكومة مع فرض مقاييس للمحاسبة والأوراق المالية من خارج الحكومات على نطاق عالمي، ومن هنا برزت ظاهرة إعادة تشكيل الهوية والانتماء لتهميش الأمة والدولة القومية.  ويقول الكاتب: “لقد أسهم النشاط المدني الكوني إسهاماً واضحاً في هذا الاتجاه نحو التعددية.  ووحدت جمعيات كثيرة عابرة للحدود الناس على أساس من الهوية غير الإقليمية، كالعمال أو الملونين أو المسلمين أو الشواذ… وفي حالات عديدة شجعت الجمعيات العابرة للحدود كذلك نمو الهويات العرقية… أما المواطنة في دولة قومية فقد بات غير كافٍ في حد ذاته… وفي الوقت ذاته هاجم بعض المدافعين عن البيئة والمدافعين عن حقوق المرأة وغيرهم من المنتقدين المتشددين مؤسسة مواطنة الدولة القومية نفسها حيث اعتبروها متناقضة مع السلامة البيئية أو المساواة النوعية أو غيرها… وبات الكثيرين من النشطاء المتعدين للحدود يعتبرون أنفسهم مواطنين عالميين… وقادت الجماعات المدنية حملة لإنشاء “المحكمة الجنائية الدولية”… وتبلورت فكرة أن على الناس واجبات مدنية كونية.. وبات الحكم أكثر من الدولة، والمجتمع أكثر من الأمة، والمواطنة أكثر من الحقوق والواجبات القومية”.

 

يتطرق الكاتب بعدها لوعود “المجتمع المدني” وأخطاره، فيرى أنه يمكن أن يلعب دوراً متمماً للسوق وبديلاً للدولة في إنتاج السلع والخدمات وتوصيلها، ومنها الصحة والإسكان والقروض الصغيرة.  كما يمكن أن يلعب “المجتمع المدني” دوراً في التثقيف السياسي لتقليل فرص تدمير العولمة للأمن الإنساني والعدالة والاجتماعية، وأن يخلق قنوات للتعبير الديموقراطي لدى الفئات المهمشة، وأن يؤثر على جدول الأعمال العالمي، وأن يزيد الشفافية والمساءلة للشركات الكونية الكبرى والمؤسسات الاقتصادية الدولية.  وهذا كله يبدو أنه يصب في ما يقول الكاتب أنه دور “المجتمع المدني” في منح المشروعية للحكم المتعدي للحدود، “حين يعترف الناس بأن للسلطة الحق في أن تحكمهم وبأن من واجبهم طاعة أحكامها…”، وهذا يساعد في “تحسين التماسك الاجتماعي” وتعزيز الاستقرار السياسي للعولمة.

 

وكل هذه الفوائد لا تتحقق آلياً بالطبع، بل لا بد من توفير المزيد من الموارد لهذا “المجتمع المدني الكوني” ليحققها، ولا بد من فرز “المجتمع المدني” عما يسميه الكاتب “المجتمع غير المدني” المتمثل بالشبكات الإجرامية عابرة الحدود وجماعات العنصريين وغلاة القوميين، ولا بد من تجنب السياسات الخاطئة  والتخطيط للحملات المدنية بدقة، وتحقيق الديموقراطية الداخلية والشفافية داخل أطر “المجتمع المدني”، وأخيراً لا بد من العمل على جعل هيئات “المجتمع المدني” أكثر تمثيلاً لشرائح المجتمع المختلفة، بعيداً عن التمييز العنصري والديني والعرقي والجنسي وغيره، بحيث تنضم إلى هيئات “المجتمع المدني الكوني” أعدادٌ أكبر بكثير من غير الغربيين…

 

وهذا كله جاء حرفياً على لسان الكاتب جان آرت شولت في الفصل السابع من كتاب “الاقتصاد السياسي للعولمة”، فلا يتهمن أحدٌ بعد الآن نقاد التمويل الأجنبي للمنظمات غير الحكومية أنهم يروجون لنظرية المؤامرة.

 

 

 

Tagged in :

الصورة الرمزية لـ ramahu

رد واحد على “التمويل الأجنبي يضعف ويفكك المجتمعات التي ينتشر فيها”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


بالمختصر

تعتبر لائحة القومي العربي كل الإرث القومي العربي إرثاً لها، وتحاول أن تبني على منجزاته وإيجابياته وأن تتعلم من أخطائه وسلبياته، وتتميز عن غيرها على هذا الصعيد أنها تتبنى كل الرموز والإنجازات القومية سواء كانت ناصرية أو بعثية أو قومية يسارية أو قومية إسلامية، ولهذا فإن مشروعها هو بناء التيار القومي الجذري الذي يستطيع أن يواجه تحديات القرن الواحد والعشرين وأن يحقق الأهداف القومية الكبرى. فهي ترفض التقوقع في الماضي أو الدخول بأثر رجعي في صراعات داحس والغبراء بين القوميين العرب التي انتشرت في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات مما أسهم بإضعاف التيار القومي في الشارع العربي..