د. إبراهيم علوش
يتألف الفكر القومي العربي المعاصر من إسهامات عدد من المعلمين الكبار من عبد الرحمن الكواكبي وساطع الحصري إلى عصمت سيف الدولة مروراً بزكي الأرسوزي وشكيب أرسلان وميشيل عفلق وياسين الحافظ ومحمد عزت دروزة وغيرهم كثيرٌ من الكتاب الذين تفاعلوا نقدياً، ولكن من منظور قومي مخلص، مع التجربة التاريخية للناصرية والبعث وحركة القوميين العرب، أو مع احتلال فلسطين والصراع مع الاستعمار، أو مع تجربة الجمعيات العربية السرية والثورة العربية الكبرى.
إن تطور الفكر القومي العربي المعاصر وقدرته على استنباط تشخيص صحيح لمأزق الأمة اليوم، وعلى وضع برامج وإستراتيجيات وتصورات من أجل غدٍ وحدوي نهضوي، يقوم إلى حدٍ بعيدٍ على قدرتنا في القرن الواحد والعشرين على تمثل خميرة نتاج تلك العقول القومية الفذة بشكل نقدي تحليلي وإعادة عجنها في فكر قومي متماسك وعصري يمكننا من قراءة واقع عملنا القومي ومشكلاته بصورة ملائمة.
وإذ نحترم حق أي قومي عربي في أن يتبع المدرسة القومية التي يختارها، سواء كانت ناصرية أو بعثية أو قومية إسلامية أو قومية يسارية أو تقليدية أو مجددة أو غير ذلك، فإننا لا نخفي أبداً تحيزنا المسبق لنهج تأويل الفكر القومي جذرياً ليصبح دليلاً للعمل الثوري لشعبنا العربي، بعيداً عن السفسطة واستعراض الذات في المصطلحات الغريبة والصيغ المفذلكة، وبعيداً عن نهج تدجين الفكر والعمل القومي ليتناسبا مع شروط التجزئة والدولة القطرية. فيما يلي تجدون جهداً متواضعاً يتناول، من تلك الزاوية المتحيزة بالذات، جانباً من جوانب الفكر النضالي عند الأستاذ ميشيل عفلق، يتعلق بالتحديد بمفهومه الفكري للنهج الوحدوي.
– مقدمة: في تنقية المفهوم الوحدوي مما تمثله “الجامعة العربية”
لم تكن الوحدة العربية عند ميشيل عفلق مجرد شعار يزين به طرحه السياسي كما يفعل البعض، كما أنها لم تكن صَدَفَة خاوية يفترض بالواقع أن يملأها بالحياة بناءً على مقاسات نظرية محددة مسبقاً. وقد وقف عفلق منذ البداية موقفاً مناهضاً للصيغ “الوحدوية” الفارغة الهادفة إلى تكريس التجزئة القطرية تحت قناع وحدوي كاذب مثل صيغة الجامعة العربية التي اعتبر أنها تأسست لمنع العرب من حشد قواهم، حتى لو وجد في دستورها أو ميثاقها ما يتيح دعم الدول العربية للنضال العربي في فلسطين أو الجزائر مثلاً. وكما قال عفلق في مقالة له بعنوان “العرب والوحدة” في 12/8/1946: “فالواقع الذي يتضح يوماً بعد يوم هو أن الجامعة ليست خطوة في طريق الوحدة العربية بل عثرة. إن ميثاق الجامعة العربية صورة ناقصة مشوهة لأماني العرب الحقيقية في الوحدة، لأنه صادرٌ عن حكومات هي صورة ناقصة مشوهة لحقيقة الشعب العربي. ولكن هذا الميثاق بالرغم من جميع علله ونواقصه، قادرٌ على تحقيق بعض الخير الأكيد لبلاد العرب، فيما لو استطاعت الحكومات أن تخلص له وتفيد من جميع إمكاناته”. لكن هيهات! إذ أن تلك الحكومات تضيف للقيود التي يفرضها الأجنبي قيوداً أخرى أضيق بوحي مصالحها القطرية، “وإذا مهمتها تقتصر على مماطلة الشعب وتخديره وإلهائه عن عدوه”.
هذا الموقف المناهض للصيغ “الوحدوية” الرسمية الهادفة لمنع الوحدة وإجهاضها نجده كخط مستمر في كتابات عفلق عبر السنين. وفي مقالة له في 15/9/1962، بعنوان “الشعب العربي يطلب تصحيح التجربة لا إلغاء الوحدة“، وهي من المواد المكتوبة بعد انفصال سورية عن الجمهورية العربية المتحدة، أوضح عفلق بشكل أكثر تبلوراً أن الجامعة العربية تأسست وعملت لتحافظ على التجزئة من جهة، ولتديم سيطرة القوى الرجعية العربية داخل أقطارها من جهة أخرى. وأنها في بعض المفاصل لعبت دوراً في تغطية الهزيمة والخيانة في فلسطين، وتضييع المسؤولية برفعها عن الحكومات العربية وإلصاقها بالجامعة العربية، وفي نفس الوقت لمنع شعب فلسطين من المشاركة في القتال بذريعة أن الجيوش العربية، العاملة على انفراد أو حسب توجيهات الدول الاستعمارية التي تديرها، سوف تتولى الأمر عنهم!
ويوضح عفلق في هذا السياق أن الجامعة العربية قامت من لدن تناقض كبير ينشأ من الادعاء على العمل لتحقيق الوحدة العربية من جهة، “وفي الانطلاق لهذا العمل من احترام وتكريس الكيانات القطرية” من جهة أخرى. ويضيف عفلق: “لقد كانت الجامعة العربية تقوم على أساس احترام استقلال كل دولة عربية، ليس تجاه الدول الأجنبية والاستعمار، بل استقلالها عن الدول العربية الأخرى، وتكريس الكيانات الإقليمية باسم مبدأ “الاستقلال” بتحريف معناه، من معنى التحرر القومي، إلى معنى الانفصال القطري“.
إن إيضاح موقف عفلق المبدئي مما تمثله الجامعة العربية مهمٌ جداً أولاً من أجل تنقية الدعوة الوحدوية للقوميين العرب بأسرهم، لا البعثيين منهم فحسب، مما علق بأذهان قطاعات الشعب العربي من ارتباط زائف بين الدعوة الوحدوية ونموذج الجامعة العربية الهادف لمنع الوحدة العربية، وثانياً للتأكيد على النزوع الثوري للدعوة الوحدوية، من حيث كونها تمثل مشروعاً مناهضاً لأنظمة التجزئة، أي مناهضاً لوجودها ولمشروعيتها ولمصلحتها باستمرار التجزئة. فالوحدة العربية ليست وحدة الأنظمة العربية، لأنها وجدت أصلاً لتمنع الوحدة. والوحدة العربية ليست اجتماع الدول العربية في إطار واحد على طريق الوحدة، لأن هذا يتطلب تنكر تلك الأنظمة لذاتها، وهذا يناقض الفطرة السليمة. الوحدة العربية إذن هي الوطن العربي موحداً بلا تلك الأنظمة، لأن الوحدة تعني بالتعريف نهاية التجزئة القطرية، وبالتالي زوال أنظمتها. ومن هنا ينبثق النزوع الثوري في الدعوة الوحدوية، ومن هنا تبقى الدعوة الوحدوية للقوميين العرب دعوة ثورية بالضرورة ما برحت أنظمة التجزئة قائمة، وما برحوا مخلصين حتى النهاية لهذه النتيجة المنطقية للدعوة الوحدوية.
– “ثورية الوحدة العربية” عند ميشيل عفلق:
ولعل ما سيق يمثل موقفاً بديهياً لا عند ميشيل عفلق وحده، بل عند كل ذاك الجيل المجيد، جيل مرحلة الوحدة والتحرر من الاستعمار. لذلك، عندما تحدث عفلق عن ثورية الوحدة العربية في مادة له بنفس العنوان في شباط 1953 فإنه لم يربط ثورية الدعوة الوحدوية بمناهضة التجزئة فحسب، باعتبار الوحدة نقيضها الموضوعي والتاريخي، بل ربط عفلق الدعوة الوحدوية برؤية جديدة لمقولتي الحرية والاشتراكية، مما يعطي الدعوة الوحدوية عنده بعداً ثورياً أعمق يتجاوز العمل السياسي المباشر إلى تثوير المجتمع والفكر والأنسان، لا بل أنه يربطها بنضال الثوريين ضد ذاتهم لتجاوزها وتطويرها ومن أجل الارتقاء بأطرهم النضالية. فهو يطرح هنا منهجاً يعتبر “أن كل نظرة ومعالجة لمشاكل العرب الحيوية في أجزائها ومجموعها لا تصدر عن هذه المسلمة: “وحدة الأمة العربية” تكون نظرة خاطئة ومعالجة ضارة”. ويضيف بعدها في نفس المقالة: “ليست الوحدة العربية محصلة أو نتيجة لنضال الشعب العربي من أجل الحرية والاشتراكية، بل هي فكرة جديدة يجب أن ترافق وتوجه هذا النضال”.
يرى عفلق إذن أن الحرية أو الاشتراكية التي “تتقلص وتتشوه في حدود قطر عربي واحد تقتصر على إصلاحات جزئية خادعة”… كما يرى أن الفرق بين من يتحدث عن الوحدة كأولوية مؤجلة، بعد تحقيق الحرية أو الديموقراطية أو الإصلاح الاجتماعي في حدود قطر، وبين من يتناول التغيير ضمن حدود القطر من منظور قومي وحدوي شامل، ليس مجرد فرق في الكم بين توجهين يصبان عند بعضيهما في النهاية، بل يمثل فرقاً في النوع. ومن هنا يرى عفلق أنه ليس من الممكن بالتالي اعتبار عمل الأحزاب القطرية، المنادية بالحرية أو الاشتراكية أولاً، “مرحلة توصل إلى الوحدة، بل اتجاهاً جديداً وطريقاً مختلفاً يبتعد عنها ويضعف إمكانياتها”، فهي أحزاب تستمد طبيعتها من وضع التجزئة وعقليتها التي تستعصي على كل توحيد. وهي أحزاب قد تمارس “تبشيراً عاماً بالوحدة يتسع لشتى الارتجالات والتناقضات”، في حين تمثل الوحدة في نظرها وممارساتها “الشيء السطحي الذي تعوزه الجدية، ويأتي في أدنى درجة من الأهمية بالنسبة إلى المشاغل القطرية التي تستأثر عملياً بكل اهتمام هذه الأحزاب”. ومن ثم يزيد لاحقاً: “وهكذا فبالرغم من وحدة حاجات الشعب العربي في جميع أقطاره، فإن معظم نضاله يهدر ويبعثر، فمنطق التجزئة لا يمنع الحركات المتماثلة في البلاد العربية من التوحد والتعاون فحسب، بل يدفعها إلى التعاكس والتناقض”.
إن هذه الفكرة عند عفلق فكرة شديدة الأهمية في مضامينها لا لأن لها انعكاساً مباشراً على طريقة تحقيق الوحدة كما يبدو للوهلة الأولى، بل لأنها تنعكس على إمكانية تحقيق الوحدة أصلاً، وإمكانية تحقيق الحرية والإصلاح الاجتماعي نفسه الذي تؤجل الوحدة باسمه… فهو يقول أن الحرية والاشتراكية لا تتحققان فعلياً إلا في سياق وحدوي، ويقول من جهة أخرى أن الوحدة العربية لن تتحقق تلقائياً في نهاية النضال من أجل حرية أو اشتراكية قطرية. ويضيف: “ليست الوحدة عملاً آلياً تتم من نفسها نتيجة الظروف والتطور. فالظروف لا تخدمها، والتطور قد يسير معاكساً لها نحو تبلور كاذب للتجزئة. فهي بهذا المعنى فاعلية وخلق ومغالبة للتيار، وسباق مع الزمن، أي أنها تفكير انقلابي وعمل نضالي. إن هجوم الاستعمار والصهيونية يكاد يتركز على الوحدة العربية”. إذن لا تتحقق الوحدة العربية نتيجةً لتطور طبيعي أو تلقائي كما حدث في أوروبا القرن التاسع عشر، بل من خلال عمل ثوري (انقلابي)، من خلال ثورة الوعي، والنهج الإرادوي، وبعث الروح في الأمة. وهي فكرة نجد صداها الموسع والمؤدلج ماركسياً بقوة عند المفكر ياسين الحافظ في كتابه “في المسألة القومية الديموقراطية”.
وفي مقالة له بعنوان “ثورية القضية العربية: حول وحدة الشعب العربي في سورية ومصر”، نشرت في 25/4/1956، وهي واحدة من عدة مقالات للدعوة للوحدة بين مصر وسورية، كتب عفلق في زيف الحل التطوري (التدريجي) لتحقيق الوحدة العربية: “فالتذرع بالتطور في مرحلة لا ينجع فيها إلا الانقلاب والثورة، ليس إلا رجعية مقنعة، وليس إلا سيراً في طريق تطورية كاذبة تعوق التطور الصحيح وتعاكس الثورة بدلاً من أن تكون مرحلة من مراحلها. وفي منطق نظرتنا الثورية مكان أصيل للتطور الصادق كمرحلة مؤدية إلى الثورة. إلا أن التطور الصادق لا يكون إلا منبعثاً ومولِّداً من العمل الثوري نفسه، أي بضغط القوى الشعبية الثورية على الواقع وبتفاعلها معه تفاعلاً موجهاً خلاقاً”.
– لا تحرر اجتماعي أو وطني بلا حركة وحدة قومية:
الدعوة الوحدوية إذن ليست قفزاً شعاراتياً فوق الواقع العربي، بل هي التحام هجومي في مواجهته، كما أشار عفلق في مقالة “للوحدة طريق واحدة” المنشور في 21/6/1957، حيث ربط المشروع الوحدوي بمناهضة الرجعية في الداخل، وبالتالي بتحقيق مطالب الشعب الاجتماعية، وبمناهضة الاستعمار في الخارج. وعلى نفس الخط، يخلص عفلق في تلك المقالة أن “الوحدة ليست مطلباً معزولاً عن واقع الظروف والشروط السياسية والاجتماعية، بل هي تعبيرٌ عن هذه الظروف والشروط وجزء لا يتجزأ منها… فلا يمكن للوحدة غير طريق واحد هو طريق التحرر والتقدم والنضال السياسي والاجتماعي… والعرب اليوم ليسوا مخيرين بين وحدة شعبية تقدمية وبين وحدة تقوم على أيدي الملوك والإقطاعيين، بل هم مخيرون بين هذه الوحدة الشعبية التقدمية التي هي وحدها ممكنة التحقيق وبين بقاء التجزئة”.
وفي مقالة بعنوان “اتحاد سورية ومصر ثمرة النضال العربي وضمانة استمراره”، نشرت في 22/6/1956، يؤكد عفلق على فكرة الترابط بين النضال من أجل الوحدة والنضال من أجل التحرر: “لأول مرة أيضاً يظهر أن العقبات التي تعترض سبيل الوحدة هي نفسها التي تعترض سبيل التحرر، وأنها في الدرجة الأولى عقبات عربية ناتجة عن فساد الوضع الاجتماعي الداخلي. ولقد أدت الخطوات التحررية التي حققتها مصر وسورية في العام الأخير إلى طرح شعار الاتحاد بين هذين القطرين كشيء واجب التحقيق العاجل. ولكن التلكؤ في الاستجابة لهذا المطلب القومي الواقعي لن ينتج عنه مجرد تأجيل للاتحاد بل تعريض لخطوات التحرر نفسها أن تتراجع وتنتكس. فالنضال العربي غدا ذا منطق قاهر، وعليه أن يتقدم دوماً لكيلا يضطر إلى التراجع”.
وكم كان عفلق محقاً في هذا الاستنتاج! ولعل نفس هذه الفكرة تعود للبروز مجدداً، بعد الانفصال، وانقضاض الرجعية في سورية على مكاسب الشعب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. ويقول عفلق تعليقاً على ذلك في مقالة له نشرت في 22/7/1962، بالرغم من الخلاف الحاد بين البعث والناصرية في تلك الفترة، أن الطبقات الشعبية، “بعد الردة الرجعية التي أعقبت الانفصال، تدرك بعفويتها وتجربتها الحية أن عدوها الأول أصبح الرجعية التي انقضت على مكاسب العمال والفلاحين والتي عادت إلى جشعها ومطامعها. وتعلق الطبقة الشعبية بالوحدة في هذا الظرف هو بالدرجة الأولى دفاع عن النفس والبقاء ضد جشع المصالح الرجعية، إلى جانب كونه تعبيراً عن شعورها الحيوي بالارتباط بين هدف الوحدة وهدف التقدم الاجتماعي. إنها تدرك أن الإبقاء على الانفصال يستهدف العودة إلى الأوضاع التقليدية الرجعية بكاملها وكبت الحركة الثورية التقدمية في الوطن العربي”.
على كل الحال، كتب عفلق في مقالة نشرت في 4/8/1962 بعنوان “لا بد للوحدة من موقف ثوري ونضال يومي” أن “الدمج بين الثورة القومية والثورة الاجتماعية، بين الفكرة القومية والفكرة الإنسانية” هو أساس الاتجاه الجديد في الحركة القومية “منذ حوالي عشرين عاماً”… ويطرح في نفس المقالة سؤالاً نفاذاً من العيار الثقيل: “هل يمكن أن تبقى في البلاد العربية حركة عربية تقدمية اشتراكية تتسع لأعمق حاجات الشعب العربي إلى الثورة الاجتماعية، والحرية والديموقراطية، دون أن تكون حركة قومية، أي وحدوية؟“. والحديث هنا لا يدور فقط عن برنامج سياسي عابر للأقطار العربية، بل عن بنية تنظيمية وتيار سياسي قومي عربي مترابط عبر تلك الحدود المزيفة.
وهي فكرة عميقة رائدة بالفعل عند عفلق نجدها كخط مستمر في كتاباته، وقد تم تطويرها لاحقاً بشكل أعمق من قبل بعض الكتاب البعثيين الذين اتجهوا يساراً فيما بعد. أما عفلق فإنه يعطي الوحدة مضموناً حيوياً مجدداً إذ يربطها بالعمل اليومي من أجل التحرر الاقتصادي والاجتماعي من جهة، كما أنه يربطها بالتحرر الإنساني من جهة أخرى من خلال بناء الدعوة الوحدوية لا على التعصب القومي، كما في حالة توحيد بروسيا لألمانيا في القرن التاسع عشر، بل على تحرر الإنسان.
ففي مقاله “المعركة بين الوجود السطحي والوجود الأصيل”، المنشور عام 1955، يرسم عفلق بعداً إنسانياً للمشروع الوحدوي، ويعتبر “أن ثورة الشعوب الشرقية تحمل بالدرجة الأولى طابعاً تحررياً إنسانياً، لأنها تتوجه ضد الاستعمار الذي يحمل في طياته جميع أنواع الظلم وأشكاله. وفي حين لا يصيب الظلم في الغرب إلا طبقات، فالشرق عبارة عن أمم مظلومة”. ويضيف بعدها في نفس المقالة: “فالأمة العربية ضحية أضخم ظلم عرفه هذا العصر، ولا يمكنها أن تحارب ظلماً بهذا الحجم التاريخي وأن تتغلب عليه إلا إذا عمقت نضالها حتى يلامس جذور إنسانيتها ويلتقي بكل نضال إنساني تاريخي… إذ ليست إنسانيتنا تلك الإنسانية المثالية التي تفتقر إلى المعاناة ودم الحياة، بل هي حصيلة نضالنا العسير وخلاصة آلامنا ومآسينا، وتحملنا لمسؤولية مصيرنا كأمة لها ماضيها بمزاياه وعيوبه، ولها حاضرها بكل قسوته وجديته، وأمامها مستقبل يتوقف عليها وحدها أن تجعله من صنع إرادتها ومن وحي حريتها”.
وفي تعليقه على الوحدة المصرية-السورية في 8/2/1958 في مقالة بعنوان “هذه الوحدة ثورة عربية وثورة عالمية وضمانتها في استمرار ثوريتها” يقول عفلق: “ثورة القومية العربية ليست ثورة قومية بل إنسانية تتعدى في فكرتها وفي آثارها العملية نطاق الوطن العربي. هي ثورة إنسانية لأنها ثورة القومية بمعناها الإيجابي العميق والخلاق، معنى التحرر في الداخل والخارج، والتقدم لشعبنا ولجميع الشعوب، والسلم والتعاون المبنيين على نضج التعاون داخل كل شعب، لا على الفرض والاستغلال والتبعية”.
– الشعب العربي هو قاطرة الوحدة العربية وأداتها:
وفي محاضرة له في النادي الثقافي ببيروت في شباط عام 1956، بعنوان “الوحدة العربية والاشتراكية”، يؤكد عفلق على “أن الوحدة العربية أعلى وأغلى في مراتب القيم من الاشتراكية. ولكن مطلب الوحدة العربية يبقى لفظاً مجرداً وأُلهية (أي أنها شيء للتلهية – إ. ع)، وفي بعض الأحيان خداعاً مؤذياً، إذا لم يوضع في نصابه الحقيقي”، إي إذا لم يتبناه الشعب العربي، الوحيد المؤهل لتحقيق مطلب الوحدة العربية. فلا السياسيون ولا المفكرون بقادرين على تحقيق ذلك المطلب، ولذلك يضيف عفلق: “فكيف يمكن أن يتحرك الشعب لحمل هذا المطلب الثقيل، وهو رازحٌ تحت هذه الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية؟ فتوحيدنا إذاً بين الوحدة والاشتراكية هو مثل إعطاء جسم لفكرة الوحدة. الاشتراكية هي الجسم، والوحدة هي الروح، إذا صح التعبير والتشبيه”.
إذن يعتبر عفلق أن قاطرة المشروع الوحدوي هي الشعب وقواه الحية، وهذه فكرة تستبعد الوحدة من فوق، عن طريق الأنظمة، أو حتى عن طريق الانقلاب العسكري إذا كان منفصلاً عن حركة الجماهير، كما يدل النص، بل هو يربط بين النضال المطلبي لتحسين الظروف المعيشية للناس، أو للدفاع عن الحريات، ضمن سياق النضال الوحدوي ومن أجل تحرير فلسطين حينما يشير: “ليس من قوة يعتمد عليها غير قوة الشعب. والشعب كما قلت إذا سلمنا بأن عاطفته إيجابية نحو الوحدة، وهذا شيء طبيعي، فماذا تجدي العواطف، إذا بقي هذا الشعب عاجزاً مكبلاً؟ ولكننا إذا حركناه للنضال، في سبيل حياة حرة كريمة، وإذا عودناه التمرس بهذا النضال، ثم استطعنا أن نجد ضمن هذا النضال منفذا للوحدة… وهذا الأمر ميسور وطبيعي جداً – فعندئذٍ تصبح الوحدة موضوعاً عملياً وتصبح مطلباً واقعياً”. لكن عفلق واضحٌ جداً في أن النضال المطلبي، من أجل الحقوق اليومية أو السياسية، ليس إلا مدخلاً للنضال من أجل الوحدة، أما الوحدة، فليست الهدف النهائي، بل هي وسيلة لتقوم الأمة العربية بمهمتها في الحياة. “فهل نحن نؤمن بالوحدة كصنم أم نؤمن بها على أنها وسيلة لتحقيق رسالة الأمة؟”، كما يقول. ثم يضيف: “إذا لم تظهر من الآن ملامح الأمة العربية الجديدة التي نريدها حرة إيجابية… فمن يضمن لنا أنها سوف تظهر عندما يحقق السياسيون الرجعيون الوحدة؟ أم أنهم سينشئون دولة للعبيد مرة أخرى؟ إننا لا نفصل بين أهدافنا البعيدة ونضالنا الحاضر في سبيل تحقيق هذه الأهداف. إن ما نريده لأمتنا بعد عشرات السنين يجب أن يظهر ولو بشكل موجز مصغر، يجب أن يظهر منذ الآن في نضالنا، نريد أمة حرة كريمة تؤمن بالإنسانية والقيم العليا… لها رسالة… رسالة خيرة”.
بالمقابل، لا يغيب عن عفلق أبداً أن النزعة الجذرية للعمل السياسي تتناسب طرداً مع سوء الظروف التي يرزح تحتها الشعب، مستخدماً مثال الشعب الجزائري في مواجهة الاستعمار الفرنسي ليوضح الفكرة، وليوضح بالرغم من ذلك أن بعض التنازلات التي انتزعها التونسيون من فرنسا جاءت أيضاً بفضل نضال الجزائر، فالأفق الوحدوي لا بد أن يهيمن على تحليل المناضل القومي العربي بالضرورة. وقد أكد في مقالة “ثورية القضية العربية: حول وحدة الشعب العربي في سورية ومصر” التي سبق ذكرها أعلاه أن “النظرة الثورية إلى قضيتنا العربية تتضمن أول ما تتضمن، وتفرض بشكل ضروري قاطع: وحدة القضية العربية وعدم جواز تجزئتها”، وتستوجب ثانياً أن تعتمد الخطوات التطورية الصادقة كما اسماها “على دعامة الضغط الشعبي الثوري”.
وفي مقالة أخرى بعنوان “حول وحدة مصر وسورية: اتجاه طريقها وعقبات هذه الطريق”، نشرت في 7/4/1956، يدعو عفلق إلى “إخراج مطلب الوحدة من نطاق الجدل العقيم، والمفاوضات والمساومات بين الحكام والسياسيين والنواب وحتى الأحزاب، وفي تسليمها إلى جماهير الشعب العربي”، ويعتبر عفلق في هذا السياق أن مطلب الوحدة “إذا انتقل إلى الشعب، وتجسد في رأي عام نضالي منظم، يشكل وحده القوة الإيجابية الفعالة التي تستطيع أن تجابه المؤامرات الخارجية والداخلية، والتي تخلق وتبني”.
– موقف ميشيل عفلق بعد مؤامرة الانفصال عن الجمهورية العربية المتحدة:
ورب قائل أن ما جاء به عفلق هنا ينتمي لمرحلة مد قومي أفل نجمها منذ أمدٍ بعيد، كما أنه ينتمي لمرحلة تسبق وصول البعث للسلطة في سورية والعراق، وتسبق انتقال المشروع الإمبريالي من مرحلة تجزئة الأمة إلى أقطار إلى مرحلة تجزئة الأقطار إلى طوائف وأقليات وأثنيات وقبائل وجهات… فشتان ما بين الأمس واليوم عندما بات الطرف الأمريكي-الصهيوني هو الذي يطالب بحل الجامعة العربية واستبدالها بإطار بديل “شرق أوسطي”… لكن حالتنا اليوم، إن كانت تدل على شيء، فإنها تدل على أن أمتنا تحتاج بدرجة أكبر لأن تمسك بموقف قومي جذري لتحافظ على وجودها وتماسكها في مواجهة الأعداء الداخليين والخارجيين. وهو الموقف الذي سعى عفلق لأن يكرسه بعد النكسة التي تعرض لها المشروع الوحدوي عقب انفصال سورية عن الجمهورية العربية المتحدة وانتقال الرجعية العربية والاستعمار لاستغلال تلك النكسة كذريعة لإسقاط فكرة الوحدة ذاتها وضرب الحركة القومية بشتى اتجاهاتها.
وفي بيان للشعب العربي في شباط 1962 أشار عفلق إلى بعض النقاط الخلافية مع الناصرية، لن نقف عندها هنا، معتبراً أن النظام الوحدوي وقع في أخطاء كبيرة أسهمت مع التآمر الخارجي في حدوث الانفصال، إلا أنه أكد في الوقت عينه “أن أخطاء نظام الحكم في الجمهورية العربية المتحدة مهما بلغت من الخطورة فإنها لا تبرر الانفصال، إذ يبقى أن فشل تجربة الوحدة هو نتيجة أخطاء، وقيام الانفصال نتيجة تدبير وتصميم وتآمر”. وهو الموقف القومي الذي ينبغي التأكيد عليه في ظروف النكسة والتراجع، لا في ظروف المد القومي فحسب. كما أنه الموقف الذي يرى بعض القوميين أنه لم ينعكس في السلوك السياسي لحزب البعث إزاء دولة الوحدة، بالرغم من أنه حل نفسه لتسهيل تحقيق الوحدة، وهي قضية قد تحتاج لنقاش أخر منفصل، لأن موضوعنا هنا ليس الخلاف بين البعث والناصرية، بل الموقف المبدئي لميشيل عفلق من قضية الوحدة. المهم أن الانفصال جريمة لا تغتفر بغض النظر عن الذرائع، والنضال لتصحيح المظالم يكون ضمن إطار الوحدة، لا ضد الوحدة.
وفي مقالة أخرى بعنوان “الاستعمار والرجعية ينفذان أكبر مؤامرة على أمتنا” نشرت في 21/7/1962، أي بعد الانفصال أيضاً، يؤكد عفلق على ذلك الموقف القومي المبدئي مجدداً: “يمثل الانفصال تجزئة من نوع جديد ترتكز إلى أسس ومنطق ومبررات وتوحد قواها التي هي قوى الاستعمار والصهيونية والرجعية العربية والشعوبية لا لتواجه أي احتمال لقيام وحدة جديدة فحسب، بل لتلاحق فكرة الوحدة والقوى الوحدوية وتدمرها في كل مكان. فالانفصال هو تحقيق التجزئة، أي جعلها حقيقة وحقاً. إنه محاولة تريد أن تجعل من فشل تجربة الوحدة شيئاً يدحض الوحدة من أساسها ويعطي البرهان العملي على أن واقع التجزئة أصيل أبدي وأن وجود الكيانات العربية المستقلة هو الوجود النهائي الخالد. أمام هذا الواقع وجدت الطليعة العربية نفسها مطالبة بواجبين وبأن تخوض معركتين في آنٍ واحد: المعركة الأولى هي الدفاع عن الوحدة ضد الانفصال والقوى المعادية للأمة العربية التي تريد أن تكرسه وتخلده… وأما المعركة الثانية فهي التي لم تتمكن الطليعة العربية من خوضها في حينها، أي معركة تصحيح أخطاء التجربة الأولى للوحدة، تلك الأخطاء التي لا بد من الكشف عنها ونقدها لكي يبقى وعي الشعب سليماً ويكون المستقبل العربي في مأمن من الضلال والخطأ”.
اترك تعليقاً