سوسن البرغوتي
ساد الخلط بين الشرائع السماوية وما جاء على لسان الأنبياء المرسلين رحمة للناس، وبين الموضوع والمزيّف، فحُرفت التوراة لتخدم مصالحهم التجارية ومنافعهم الشخصية، وهو ما ذكره ماركس ” في المسألة اليهودية”،(أن سر اليهودية يجب أن نبحث عنه في اليهودي العملي، لا أن نبحث عن سر اليهودي العملي في التوراة)، كما وُظف التحريف فيما بعد لنزعة استعمارية بحتة، جعل منها ديانة وضعية بامتياز. أما الخلط الثاني، فهو محاولات الفصل بين اليهودية والصهيونية، بمقولة أن اليهود أتباع ديانة سماوية، بينما الصهاينة محتلون مغتصبون للأرض والحقوق الفلسطينية، في حين أن الصهيونية وُلدت من رحم الفكر اليهودي، وشكل هذا الفكر الأسس والأعمدة لتأسيس كيان يلغي وجود السكان الأصليين، ويستبدلهم بيهود من شتى أنحاء الأرض. فالتقوقع داخل جيتوهات، ونظرتهم للأغيار، وبناء قرى محصنة، جاء وصفها في القرآن الكريم الأصدق: (لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعا إِلاَّ فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ). صدق الله العظيم.
هذه العقلية حولت الانتماء الديني إلى قومية مزيفة، تجمع شتاتهم في “أرض الميعاد والالتقاء”، أو ما يقال أن الربّ كتب على اليهود المنافي، تدلل على أنهم يرفضون المواطنة في بلادهم، وكأنهم يختلفون عن باقي المواطنين!.
ما سبق مدخل لموضوع خطير جداً، ليس على مستوى فلسطين فحسب، بل وعلى صعيد البشرية جمعاء، ألا وهو موضوع “المحرقة” وعلاقتها بالسامية، التي باتت تشكل خطًا دوليًا أحمرًا، ومن يتعرض لها بمجرد الذكر والبحث والتوثيق، يتم التعامل معه وكأنه ارتكب جريمة لا تُغتفر، بالمناسبة إن تصنيف البشر إلى ساميين وحاميين، هرطقة أخرى من جملة ما يدّعون، على أنهم “شعب الله المختار”، وأنهم من سلالة سام، ولم يكن يهوديًا، بل لم تكن الشريعة اليهودية قد ظهرت بعد، وهذا الادعاء المزيّف ميثولوجيا صدروه بخبث، وتلقفناه بسذاجة.
إن الهالة المقدسة التي غلفت الادعاءات والتلفيقات ليست أمرًا لا يعنينا، أو منح صك براءتهم من أننا (ضحايا ضحاياهم)، فعلى تلك الصورة أصبحت ديانة مسيّسة، تلزم شعوب العالم غير اليهود بدفع ضريبة ما يسمى ضحايا “المحرقة”، سواء بالتدمير والقتل الجماعي، أو ماديًا، أو دعم الكيان سياسيًا، ليعلن (دولته اليهودية النقيّة) وعاصمتها الأبدية القدس، في الوقت الذي لم يشر أي بحث وتنقيب عن أي أثر تاريخي للهيكل، ومع ذلك فإن الدول لا تُبنى على أساس وجود معبد في العصور الغابرة، تعرض للتدمير، إذا وُجد أصلاً، في كل أرض فلسطين.
أما أن يبدي البعض لامبالاة تجاه تلك الأباطيل، فهذا جهل وعدم وعي بخطورة المضيّ للسيطرة على العقل العربي، ورفضها من منطلق أنها وُظفت سياسيًا، لكن الحقيقة، أنها اُختلقت ليتبنى العالم ديانة ما بعد الحداثة، بإحداث خلل في التوازن القيمي، فالقيم المادية نسبية وكذلك المعنوية، مما يؤدي إلى هوة تتسع بين ما هو ثابت، وبين ما يشوه العقل البشري بمرجعية دينية، وبالتالي يخطو العالم خطوات سريعة نحو الانهيار.
ما هي العلاقة بين ما سبق، وما يسمى “حل الدولة الديمقراطية”؟
نتيجة فشل المفاوضين الفلسطينيين، والسقوط المدّوي لحل الدولتين، وتشكيل حكومة يمين “إسرائيلية”، تثبت عقيدة وإستراتيجية الحرب في تكوين الكيان الغاصب، ولا تختلف عن سابقاتها بأي حال، فقد نشط دعاة التعايش السلمي مع العدو في دولة واحدة، لحفظ بقاء “إسرائيل”، وليس بهدف تحرير فلسطين، ولا وجود لأي برنامج سياسي متفق عليه، سوى المطالبة بتذويب الهوية العربية الإسلامية لفلسطين بالكامل، بالإضافة إلى احتمال توسيع رقعة هذه الدولة، لتشمل شرق الأردن نزولاً لرغبة يهودية صرفة في تأسيس دولة من الفرات إلى النيل.
فتوحيد الجهود بغية التعايش، يمنح “الدولة الواحدة” حق التوسّع من العراق إلى مصر، وما الأحداث الجارية في السودان من غارات “إسرائيلية”، تشير إلى أن مناطق نفوذ هذه الدولة يمكن أن تمتدّ إلى منابع النيل، حيث مصادر المياه عصب الحياة في السودان ومصر. كذلك فإن الحدود الشمالية تتطلب السيطرة على منابع الفرات بتركيا. إذا تحققت المطامع، ستشكل الخارطة السياسية لـ”شرق أوسط” جديد، بسيطرة “إسرائيلية” ودعم أمريكي.
عودة إلى المطالبة بحل الدولة الواحدة، والتناقض الواضح بين الممارسات “الإسرائيلية” في القدس والضفة الغربية المحتلة لتهويدها بالكامل، وإعلان (الدولة اليهودية)، فإن هذه الدولة الهلامية والخرافية لا تستند على واقعية الأحداث المتصاعدة، ناهيك عن خطورتها.
إن المؤتمر الذي عُقد في بوسطن وشمل ثلة من مثقفين فلسطينيين، يلجؤون إلى حل الدولة، بدل اعتماد إستراتيجية التحرير ولو على مراحل، ودعم المقاومة الفلسطينية المسلحة، وجدوا في هروبهم، أريحية استسلامية بالتعايش مع اليهود في فلسطين كيفما اتفق، وبصرف النظر عن تسمية هذه الدولة، رغم أن الكثيرين منهم لا يؤمنون بالأديان، وأن “النزاع الفلسطيني- اليهودي”، يجب أن ينتهي، واضعين صراع قومي مقابل صراع ديني استعماري بحت.
حتى هذه اللحظة لم يصدر أي بيان شجب أو استنكار للمؤتمر التطبيعي من قبل الفصائل المقاومة الفلسطينية، ما يعني إما اللامبالاة كي يستفحل بين فئات الشباب الراغب بالسلام، أو بتعبير أدق، بالاستسلام، وإما موافقة ضمنية لاستكشاف إلى أين ستفضي التحركات، وجس نبض “إسرائيل” الرافضة له أساسًا.. تتحول بعد ذلك القضية الفلسطينية إلى قضية بحث في طرق جديدة لاستجداء المحتل لقبول السكان الأصليين في البلاد، تحت سيطرة “إسرائيلية” كاملة.
ندقّ أجراس الخطر ونشير إلى خطورة المشروع المدمّر لهوية وثقافة الشعب العربي الإسلامية والقومية، وإلى كينونة العرب في الوطن العربي.
إن الاستمرار في اللامبالاة والتجاهل، وعدم إعلان موقف محدد وواضح عربيًا وفلسطينيًا، منددًا بخطورة المشروع من ألفه بتقديس “المحرقة”، إلى يائه بقبول التعايش مع عدو له أطماع وخطط سيأتي تنفيذها في وقتها ومناسباتها، سنجد في نهاية المطاف أن الوطن العربي قد تحوّل بأسره إلى دولة صهيونية بطابع يهودي صرف.
اترك تعليقاً