د. إبراهيم علوش
كتاب “ملاك على السياج: قصة حب عاش” Angel at the Fence كان يفترض أن يصدر عن دار بيركلي للنشر، وهي الفرع الأمريكي من دار نشر “كتب بنغوين” Penguin Books البريطانية، في شهر شباط 2009.
لكن دار بيركلي أعلنت فجأة، في نهاية عام 2008، عن قرارها بإلغاء نشر “ملاك على السياج”. فالكتاب الموصوف بأنه “القصة الحقيقية لناجٍ من المحرقة تمت الاستجابة لصلواته من أجل الأمل والحب” تبين في الواقع أن قصته مزيفة، بناء على شهادة أخوانه وأصدقائه المقربين فيها!
كتاب “ملاك على السياج” قصة حب وحرب “حقيقية” من مذكرات “ناجٍ حقيقي” من معسكر الاعتقال النازي هو السيد هِرمان روزنبلات Herman Rosenblat. وقد زعم روزنبلات بأن فتاة يهودية في التاسعة من عمرها كانت تخاطر بنفسها يومياً في شتاء عام 1945 لتلقي له بالخبز والتفاح من فوق سياج معسكر الاعتقال النازي “شليبن”، وهو فرع من سجن “بوخنوالد” النازي الرهيب والمعروف Buchenwald، حيث كان يقبع في سنين مراهقته الأولى. وقد زعم السيد روزنبلات أنه عاد ليلتقي بنفس الفتاة بمحض الصدفة، واسمها “روما ردزيكي”، في نيويورك عام 1957، أي بعد اثني عشر عاماً، فوقعا في الحب (والكذب) وتزوجا وأنجبا وعاشا عمراً مديداً ليعلما الأجيال قصة معاناة اليهود في “المحرقة”، وقدرتهم على صناعة الحب والأمل من قلب (أو قل على سياج) معسكرات الاعتقال النازية!
أما أن هرمان وروما التقيا في نيويورك عام 1957، من خلال أصدقاء، وأنهما تزوجا بعدها، وأنهما يهوديان، وأنهما تبنيا قصة لقائهما كطفلين عند سياج معسكر “شليبن”… فكل ذلك صحيح.
المشكلة طبعاً أن سياج معسكر “شليبن” بالذات كان مكهرباً، وكانت تحرسه قوات الصاعقة النازية SS وتقيم بمحاذاته، ولم يكن ممكناً للنزلاء أن يقتربوا من السياج على هواهم أصلاً، ناهيك عن ملاقاة بنات في التاسعة من عمرهن يرمين لهم الخبز والتفاح من فوق السياج – خلال الحرب العالمية الثانية – ، خاصة في الموعد اليومي الذي حدده السيد هرمان روزنبلات، ما بين الرابعة والخامسة بعد الظهر، فيما كان يفترض أن تنتهي نوبة العمل اليومية في معسكر الاعتقال النازي في الساعة السادسة والنصف مساءً…
وهذه مجرد ملاحظات تاريخية وفنية، بيد أن أخوة هرمان روزنبلات وأصدقاءه وابنه يقولون ببساطة أنه وزوجته روما فبركا القصة بغرض جمع المال… وأنهم لم يسمعوا شيئاً عن رمي خبز وتفاح من فوق السياج عام 1945، أو عن أي لقاء ما بين هرمان وروما قبل عام 1957…
لكن السيدة أوبرا وينفري، صاحبة البرنامج المشهور باسمها Oprah، كانت قد استقبلت هرمان وزوجته روما مرتين، أولهما عام 1996، ووصفت “القصة الحقيقية” لهرمان وروما بأنها “أعظم قصة حب منفردة، خلال 22 عاماً على هذا البرنامج، قدمناها على الهواء”!!
وكان هرمان روزنبلات قد بدأ مسيرته نحو الشهرة والمال بمسابقة خلال أواسط التسعينات أجرتها بعض الصحف الأمريكية عن أفضل قصص “المحرقة” (ومن هنا استضافته وزوجته على برنامج أوبرا، إذا افترضنا أن السيدة أوبرا وينفري كانت “ضحية” بريئة لأكاذيب هرمان.. مرتين).
ويذكر أن قصة “ملاك على السياج” قد صدرت منها طبعة خاصة للأطفال في أيلول 2008 تحت عنوان “الفتاة الملاك” Angel Girl، من تأليف لوري فريدمان ورسوم أوفرا أميت، عن دار نشر ليرنر.
كما سيبدأ تصوير فيلم، عنوانه “زهرة السياج” Flower of the Fence، اعتماداً على قصة هرمان روزتبلات. وقد تم رصد 25 مليون دولار من قبل شركة إنتاج الأفلام Atlantic Overseas Pictures كموازنة مبدئية للفيلم الذي سيبدأ تصويره في آذار 2009، حتى بعد انكشاف الفضيحة علناً، ليضاف “زهرة السياج”، أو “السياج” اختصاراً، لحوالي مئتي فيلم أخر تضخ عقدة عار “المحرقة” بانتظام في الوجدان الغربي.
أخيراً، وليس أخراً، أعلنت دار “مطبعة بيت يورك” York House Press، في نيويورك، في كانون ثاني 2009، أنها سوف تنشر قصة هرمان روزنبلات، كرواية، اعتماداً على الفيلم.
فالعقل التجاري اليهودي لن يضيع كل الدعاية التي أحاطت ب”ملاك على السياج” هباء.. وما دامت هوليود قادرة على تحويل الخيال إلى حقيقة، والحق إلى باطل، لا تعود ثمة مشكلة في توظيف انكشاف حقيقة “ملاك السياج” سياسياً في نسج المزيد من الأوهام حول قصة كقصة “المحرقة” تقوم أصلاً على الوهم، ويمنع مجرد نقاشها بقرار رسمي من الأمم المتحدة، وتعاقب دول أوروبية كثيرة بالسجن والغرامات من يقترب منها بالنقد والتفنيد!
وهذه القصة، قصة “المحرقة”، لا يوجد أي دليل مادي أو علمي عليها أصلاً غير “شهادات” الناجين المزعومين منها، و”الشهادات” المنتزعة انتزاعاً من الضباط الألمان في محكمة نوريمبرغ عقب الحرب العالمية الثانية.
وتبقى “المحرقة” هي المرجعية بجميع الأحوال. لكن ما جرى في حالة “ملاك على السياج” يمثل حالة فريدة من حالات انفضاح أكاذيب “المحرقة” لأن وسائل الأعلام الرئيسية في الولايات المتحدة غطت القصة وتناولتها كنموذج على الكذب والجشع، وهذا غير مألوف، خاصة مع تمدد الهيمنة اليهودية على وسائل الإعلام والترفيه الأمريكية، ومنه مثلاً ما جاء في 18/2/2009 على شبكة تلفزيونية أمريكية رئيسية، هي شبكة ABC، من نقد وتهكم على هرمان روزنبلات، كاتب “ملاك على السياج”، ، كما نرى على هذا الرابط:
http://cosmos. bcst.yahoo. com/up/player/ popup/index. php?cl=12098233
ويعرف المؤرخون والكتاب المراجعون، الذين يكشفون زيف أساطير “المحرقة” اليهودية بالعلم والعقل والتحليل السياسي والفكري، أن مثل هذا النقد لأيديولوجيا القوة اليهودية، أي لأيديولوجيا “المحرقة”، هو من المحرمات. فالغرب يبيح نقد الأديان والأنبياء والرؤساء والمسؤولين من كل الخلفيات كما يشاء المرء، وكما يرى يومياً على شاشات التلفاز، أما الاقتراب نقدياً من “المحرقة”، فليس لضعاف القلوب… والفرق الحقيقي بين الأولاد والرجال اليوم في مواجهة الأساس العقائدي للنفوذ الصهيوني هو الجرأة على تفنيد “المحرقة” ودحضها، ومن يهاب المساس بها، فقد أفلتت منه الحلقة الرئيسية في إستراتيجية مناهضة الصهيونية في القرن الحادي والعشرين.
البرفسورة ديبورا ليبشتادت Deborah Lipstadt – وديبورا اسم يهودي كالعفن، إن كانت هويتها تحتاج إلى تعريف – هي صهيونية متعصبة ومن أبرز منظري أيديولوجية “المحرقة”. وقد سبق أن خاض المؤرخ والكاتب المراجع ديفيد إيرفينغ معركة قضائية في المحاكم البريطانية – تضمنت سجالاً فكرياً – ضد ليبشتادت، وهي بالمناسبة رئيسة قسم الدراسات اليهودية الحديثة ودراسات “المحرقة” في جامعة إيموري الأمريكية. وقد وضعت عام 1994 مرجعاً يحتفي به اليهود عنوانه “إنكار المحرقة: الهجمة المتصاعدة على الحقيقة والذاكرة”. وهو كتاب صادر عن دار بنغوين Penguin Books أيضاً، ويبلغ عدد صفحاته 304 تماماً مثل كتاب “ملاك على السياج”! والفرق الوحيد بين الكتابين أن كتاب ديبورا لم ينكشف زيفه تماماً بعد… بالرغم من جهود ديفيد إيرفينغ، وغيره من الكتاب المراجعين.
المهم أن ديبورا ليبشتادت، كما برفسور دراسات “المحرقة” كنيث والتزر، قد شهدا بأن رواية “ملاك على السياج” محض خيال، وهو ما قد يثير تساؤلاً حول سلبية موقفهما من هرمان روزنبلات، مع أنهم جميعاً جزء من نفس “الكار” أو الصنعة: صناعة “المحرقة”؟!! وهو السؤال نفسه حول سر تجرؤ وسائل الإعلام الغربية على تناول روزنبلات نقدياً وبهذه القوة؟
الجواب هو أن أمثال روزنبلات، بتفاهاتهم المكشوفة التي يسهل إسقاطها وفضحها، ينالون من مؤسسة صناعة “المحرقة”، ويسفهون، من أجل الكثير من المال والقليل من الشهرة، أي من أجل إخضاع مشروع أيديولوجي كامل لمصلحة فردية ضيقة، مؤسسة ومصداقية “المحرقة” نفسها، أي أنهم يهددون النفوذ الصهيوني ويضاربون على مراكز قوته الرئيسية مثل أقسام دراسات “المحرقة” في الجامعات الأمريكية. ولذلك كان لا بد من التضحية بهرمان روزنبلات من أجل إنقاذ أساطير “المحرقة”. فالاستشهاد بديبورا ليبشتادت لإسقاط هرمان روزنبلات يعطيها المصداقية اللازمة لإسقاط من هم أكثر جدية بكثير منه، مثلاً ديفيد إيرفينغ، وناكري “المحرقة”، تماماً كما يعطي الاستنجاد بالمحكمة الجنائية الدولية لمحاكمة القادة الصهاينة مصداقية لجهود تلك المحكمة لمحاكمة القادة العرب، مثل البشير… وغيره، ولتفكيك الدول العربية. فالمحكمة الجنائية الدولية جادة بمحاكمة العرب ومن تريد الإمبريالية التخلص منهم، لا بمحاكمة الصهاينة. لذا يجب أن نرفض مرجعيتها ابتداءً… ومرجعية اليهودية ديبورا ليبشتادت، من حيث المبدأ، ولو نادت بتحرير وعروبة كامل فلسطين والعراق… والأندلس.
بالمناسبة، لم يكن روزنبلات أول محاولة للتربح من عبودية العقل الغربي لأساطير “المحرقة”، بل كان هناك مثلاً قصة ميشا ديفونسيكا Misha Defonseca التي ألفت سيرة ذاتية “حقيقية” أيضاً بعنوان: “ميشا: ذكرى سنوات المحرقة” Misha: A Memoire of the Holocaust Years عن فتاة يهودية تنقذها وتتبناها الذئاب في الغابات فتترعرع معها بعيداً عن معسكرات الاعتقال النازية، لكي يتكشف فيما بعد أن الأخت ميشا ليست أصلاً يهودية، وأنها كانت خلال الحرب العالمية الثانية تعيش مع “الذئاب البشرية” في المدن في بلجيكا! وهذه باتت معلومات عامة ليست موضع خلاف… لكن هذه الحالة تظل محاولة سرقة ملكية فكرية من شخص غير يهودي لتراث “المحرقة” لا تثير الشك برواية “المحرقة” نفسها مثل حالة روزنبلات، ولذلك لما بالغ وشط حتى استنكر عليه أهله ذلك علناً، كان لا بد من شطبه!
ملاحظة: يغلف كاتب هذه السطور كلمة “محرقة”، مثل كلمة “إسرائيل”، بمزدوجين لأنه لا يعترف بهما، كما أن تعبير “صناعة المحرقة” الذي يستعمله “نورمان فنكلستين” ليس أبداً مثل صناعة “المحرقة”. ف”صناعة المحرقة” تعبر عن استغلال “المحرقة” تجارياً، أما صناعة “المحرقة” فتعبر عن اختراعها اختراعاً، وشتان ما بين الاثنين.
اترك تعليقاً