المجلة الثقافية للائحة القومي العربي… عدد 1 شباط 2017
– ما هو الشرط التاريخي الأهم لإعادة إحياء التيار القومي؟/ إبراهيم علوش
– العصر الجينومي والتلاعب بالهويات/ فؤاد بدروشي
– في نقد التديّن السياسي/ بشار شخاترة
– شخصية العدد: ياسين الحافظ وحياته وفكره/ نسرين الصغير
– الإمبريالية الإعلامية وتركيبة خطابها/ إبراهيم حرشاوي
– “ويكيليكس” يؤسس منهجاً للإعلام المعاصر/ ياسمين بشار
– زاوية الشباب: لماذا احتُلّت فلسطين؟/ صدام أبو دية
– الإسلام بين التّنوير والتّحقير/ محمد العملة
– هل الأريــوســيــة عقيدة توحيد؟/ علي بابل
– عن الخبز الحافي لمحمد شكري/ معاوية موسى
– قصيدة العدد: أبو الطيب المتنبي – واحَـرَّ قَـلـبـاهُ مِــمَّـن قَــلبُـهُ شَــبِــمُ/ إعداد: أيمن الرمحي
– كاريكاتور العدد
العدد 33 – 1 شباط 2017
PDF لقراءة العدد عن طريق فايل الـ
TT33-1-1
للمشاركة على الفيسبوك
https://www.facebook.com/Qawmi
ما هو الشرط التاريخي الأهم لإعادة إحياء التيار القومي؟
إبراهيم علوش
أن تكون قومياً عربياً جذرياً في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين يعني أن تكون قابضاً على الجمر كما لم يقبض عليه أسلافك من القوميين السابقين منذ محمد علي باشا ومشروعه القومي النهضوي في مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر. ففي زمن التيارات الليبرالية (اليمينية واليسارية)، وفي زمن التيارات الدينية (المتطرفة والمعتدلة)، بات القوميون كالأيتام على مائدة اللئام، سوى أنهم ليسوا أيتاماً إنما سدنة مصلحة الأمة التي تمثّل بوصلتهم الأولى التي لا تخيب مهما اضطربت بحار الحدث اليومي واختلطت أنواء اللاعبين الإقليميين والدوليين وأجنداتهم.
فالقوميون العرب كانوا تاريخياً التيار الأكثر تعرضاً للاستهداف المنهجي في العصر الحديث بالضبط لأنه التيار الذي يشكل تحقيق أهدافه، مثل الوحدة والتحرير والنهضة، انقلاباً جذرياً في بنيان المعادلات الدولية والإقليمية. ولهذا فإنّ تقويض أسس التيار القومي، وجاذبيته لقواعده الجماهيرية الطبيعية، وقدرته على التعبئة والتنظيم، وعلى إيصال رسالته، أصبح هدفاً أول للإمبريالية وأدواتها، بشكل منفصل عن هدفها في الحيلولة بين التيار القومي وبين تحقيق أهدافه بالقوة العسكرية كما فعلت مع كل قوة عربية ذات نزوع قومي منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا.
وقد بانت ملامح هذه الاستراتيجية الإمبريالية بوضوح منذ محمد علي باشا الكبير في مصر، لا بل من قبله، عندما واجَهَ الشعب المصري، لا المماليك أو العثمانيون، حمْلة نابليون على مصر. وكما ذكَر نابليون بونابرت في مذكّراته التي أملاها في منفاه في جزيرة سانت هيلانة: “والذي يقرأ بالتفاتٍ تامّ تاريخ الحوادث التي توالَت على مصر في القرنين الأخيرتين – السابع والثامن عشر – يوقن بأنه لو عهدت الدولة العثمانية إلى والٍ من أهل البلاد، كما هو الحال في ألبانيا، بدلاً من أن تعهد إلى اثني عشر ألفاً من المماليك، لاستقلّت المملكة العربية التي تتألف من أمّة تخالف الأمم غيرها مخالفةً كليةً بعقليتها وأوهامها ولغتها وتاريخها، وشملت مصر وبلاد العرب وشطراً من بلاد أفريقيا” (1).
كما نقل المؤرخ المصري العريق محمد فؤاد شكري عن دي بوالكموت مبعوث الدول الأوروبية إلى محمد علي، في تقريره لتلك الدول، الخوفَ من الصعود العربي في ظلّ محمد علي باشا: “وهناك من ناحية أخرى أمرٌ لا نستطيع حتى الآن أن نتكهّن بنتائجه، ونعني بذلك تلك الحروب التي وضعت أوزارها منذ عهدٍ قريب، وما سوف تبثّه في نفوس الأمة العربية من شعور بالقومية، وروح عسكرية، على يد جيوش محمد علي الجرّارة، مما يوقظ فيها الشعور بقوّتها من جديد، ويولّد في أبناء العرب الرغبة في أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم…” (2)، وقد نقل دي بوالكموت في تقريره أنه لم يلحظ بعد شيئاً من هذا القبيل. لكن قضية الصعود العربي كانت، وما برحت، تقلق أوروبا بشدة، خصوصاً من خلال النزعة العسكرية التي قد تكون قد تسرّبت عبر جيوش محمد علي باشا. ويضيف محمد فؤاد شكري أن دي بوالكموت طرح الموضوع مباشرة مع محمد علي، الذي طمّأنه أنّ العربي لم يكن يسمح له أن يصل إلى أعلى من رتبة يوزباشي (أي نقيب) (3). وقد تحققت تلك النبوءة بعدها بعقود مع وصول أحمد عرابي لمنصب وزير الدفاع مما اقتضى تدخلاً عسكرياً بريطانياً مباشراً في مصر مما تحول إلى احتلال لم يزل إلا بعد ثورة 23 يوليو 1952.
وكان البريطانيون يحاربون محمد علي باشا لأنهم اعتبروه مشروعاً عربياً. ولعل أكبر عدو استراتيجي للمشروع القومي العربي في العصر الحديث، وواضع أسس مناهضته، ومنها تأسيس دولة الكيان الصهيوني كحاجز جغرافي-سياسي يفصل ما بين الجناحين الآسيوي والأفريقي للأمة العربية، هو بالمرستون وزير الخارجية البريطاني في عهد محمد علي، الذي أصبح فيما بعد رئيساً لوزراء بريطانيا، وقد اشتُهر بكراهية محمد علي كرهاً شديداً، والسعي لتشويهه، ونُقل عنه القول: “إنني أكره محمد علي الذي اعتَبِره بربرياً جاهلاً، أحرَزَ النجاح عن طريق التحايل والوقاحة”(4). لكنّ مشكلة ذلك المخلوق البرمائي ذي الدم البارد، بالمرستون، الذي صاغ استراتيجيات إمبراطورية بريطانية ما زلنا نعاني آثارها حتى اليوم، لم تكن مشكلة شخصية مع محمد علي على الإطلاق، بل قناعته التي دوّنها كتابةً في العام 1833: “إنّ الهدف الحقيقي لوالي مصر هو: تأسيس مملكة عربية تضم جميع البلدان الناطقة باللغة العربية” (5).
ومن هنا جاء تدخل بريطانيا وبروسيا والنمسا وروسيا تدخلاً عسكرياً مباشراً لإخراج محمد علي باشا بالقوة العارية من الجناح الآسيوي للأمة العربية، وإعادته للسلطنة العثمانية (وهذه الواقعة التاريخية نقدمها للإسلامويين المدافعين عن النزعة العثمانية بالذات)، وتفكيك جيش محمد علي والنهضة الصناعية التي أقامها. ومع هزيمة محمد علي باشا تقَهْقَر المشروع القومي عقوداً على الصعيد السياسي، بمعنى أنّ أهدافه المتمّثلة بتوحيد الأمة في دولة مركزية واحدة وتحقيق استقلالها عن قوى الهيمنة الخارجية والاحتلالات وإطلاق نهضتها الصناعية والثقافية أُجهِضَت في تلك الجولة التاريخية، لكنّ الحرب ضدّ التيار القومي نفسه استمرّت بضراوة، بطرقٍ أخرى، أيديولوجية.
وبعد الاحتلال البريطاني لمصر في العام 1882، في ظلّ ولاية “حافظ الحمى والديار في وجه الاستعمار” السلطان عبد الحميد الثاني، باتَ شَطْب الوعي القومي العروبي لمصر ضرورة استراتيجية كصمام أمان جغرافي-سياسي يحوْل دون عودتها للدور الذي لعبته أيام محمد علي، ليجرّدها من قدرها التاريخي ويحوّلها من رائد وحدوي إلى حاجز في طريقه، وقد عمِلت بريطانيا والسلطنة العثمانية كقطبيْ مغناطيس لتدمير النزعة العروبية في مصر واجتثاثها، وكان ذلك عن طريق الأيديولوجيا: الأيديولوجيا القُطرية الفرعونية المصرية المنبتّة عن الهوية العربية، والأيديولوجيا الإسلاموية المشرقية المعادية للقومية العربية. ولعلّ أروع معالجة لتفاعل هاتين النزعتين ودورهما في إضعاف الفكر القومي هي معالجة المفكّر القومي اليساري ياسين الحافظ: “شُنّت حربٌ مزدوجة من الجانبين: الاتجاه القومي المصري الإقليمي، المفرعن، التغربي، رأى إلى النزعة القومية العربية بوصْفها استحالة من استحالات الأيديولوجيا الإسلامية ونتاجاً فرعياً من نتاجاتها وترميماً لها (لطفي السيد، طه حسين، سلامة موسى، إلخ…)، والاتجاه التقليدي الإسلامي، متمّثلاً بالأزهر، الذي أدانَ النزعة القومية العربية بوصفها غير متفقةً مع كونية الدين الإسلامي وتمرّداً على سلطة مسلمة تحمي الإسلام من عدوان الغرب، وشقاقاً مع شعب مسلم” (6). والحقيقة أنّ هذا المقتطف لا يفي معالجة ياسين الحافظ للمسألة حقّها، إذ لا بد من مراجعة الصفحات الأولى من الفصل المعنون “تطور وعي عبد الناصر الوحدوي” في كتابه “في المسألة القومية الديموقراطية” (7).
وقد سبق أن أظهرنا، في العدد 31 من مجلة “طلقة تنوير”، أنّ الاستعمار البريطاني لم يكتفِ بدعم النزعات القُطرية المناهضة للنزوع القومي الوحدوي، بل عَمِلَ بشكل حثيث على: 1) دَعْم الحركة الوهابية عبر مكتب الهند، وضابط الارتباط جون (عبدالله) فيلبي، و2) دعم تأسيس تيار إسلامي ابتدأ مع جمال الدين الأفغاني الذي تمّ استحضاره من الهند، وانتهى بدعم حركة الإخوان المسلمين عبر مكتب القاهرة (8). ومن المعروف أنّ الحرب الشعواء التي خاضتها بريطانيا والدول الاستعمارية والأنظمة الرجعية العربية ضد عبد الناصر خصوصاً، وحركة التحرر القومي العربية عموماً، تمّ خوضها إلى حدٍ بعيدٍ في الخمسينيات والستينيات بأدوات إسلاموية في الشارع وفي الأيديولوجيا، وما هي إلا امتداد لاستراتيجية دعم النزعة العثمانية في مواجهة نزعة محمد علي باشا لتأسيس مملكة عربية تضمّ كل البلدان الناطقة بالعربية، على حدّ تعبير بالمرستون.
العِبرة مما سبق أنّ الإمبريالية وأدواتها حاربوا التيار القومي أيديولوجياً، لا سياسياً وعسكرياً فحسب، ولم يكتفوا بالسعي لضرب كل تجربة قومية عروبية، من مصر محمد علي باشا إلى مصر عبد الناصر، إلى جزائر بن بلّا، إلى سورية اليوم، مروراً بالعراق وليبيا في السنوات الأخيرة، إنّما عملوا ليل نهار على تشجيع التيارات المناهضة للعروبة في المجتمع، من اللونيْن الليبرالي والإسلاموي خصوصاً، ناهيك عن تشجيع الوعي الأقلوي، الطائفي والإثني والمناطقي.
المغزى هو أنّ الحرب الاستعمارية على التيار القومي العربي هي حربٌ تاريخية، بدأت منذ قرنين، ولم تتوقف حتى الآن، وبالتالي فإنّ أي حديث عن إعادة إحياء التيار القومي خارج سياق الصراع مع قوى الهيمنة الإمبريالية وأدواتها هو تهويمٌ خارج السياق التاريخي ولا معنى له. وهذا لا ينفي وجود شروط أخرى لإعادة إحياء التيار القومي، لكنّ الصِدَام مع الإمبريالية وأدواتها هو نقطة البداية والنهاية التي لا مفرّ منها.
هذا يعني أن التيار القومي، منذ نشأ، وَجَد نفسه في حالة مواجهة مع الإمبريالية وأدواتها، وكانت كل موجة قومية عروبية في العصر الحديث تنكسر انكساراً عسكرياً أو سياسياً في مواجهة مع الإمبريالية وأدواتها، وكانت هزيمتها في كل مرة تعيد التيار القومي عقوداً للخلف، ليعود للنهوض من جديد، لأنّ الواقع العربي ما برح يستصرخ الحلّ القومي استصراخاً كل لحظة. ولهذا تؤكّد أدبيات لائحة القومي العربي أنّ أهداف المشروع القومي (الوحدة والتحرير والنهضة) تبقى راهنة، ولا تسقط بالتقادم، لأنّ جذور كل مشاكل الواقع العربي المعاصر هي ثالوث التجزئة والتبعية والتخلف (9)، ولأن حقيقة الوجود القومي المترسخة عبر آلاف السنين من التفاعل بين الأرض والشعب والزمن ما تزال تمارس جذباً مقاوِماً لعوامل التفكيك والتشرذم التي لا نقلل من شأنها، ولأن حملات العدوان التي تقوم بها الإمبريالية وأدواتها ضد أي بلد عربي يتردد صداها في الأقطار المجاورة والبعيدة مما يُشعر المواطن العربي العادي بالخطر الداهم الذي لا بدّ من ردّه، ولأننا، بالرغم من كل شيء، ما زلنا نبحث عن مكاننا تحت الشمس في هذا العالم، وندرك في أعماق أعماقنا أننا لن نجدَه إلا كقوةٍ متحدةٍ قادرة، مهما بدا مثل ذلك البحث شاقاً ومعقداً وشائكاً.
وإذا كانت التجارب القومية العربية خلال القرنين الأخيرين قد انكسرت أو فشلت، فإن ذلك لا يعني سقوط الفكرة القومية، كما أن سقوط السلطنة العثمانية (أو العباسية أو الأموية) لا يعني انتهاء مشروع الإسلام السياسي، وسقوط الاتحاد السوفييتي السابق لا يعني سقوط الفكرة الاشتراكية، سوى أن السلطنة العثمانية والاتحاد السوفياتي تَقَوّضَا من الداخل، تحت وزن عوامل الفشل الداخلية أساساً، أما كل تجربة قومية عربية خلال قرنين فقد تمّ تقويضها من الخارج، تحت وزن العوامل الخارجية أساساً، من دون أن ننفي وجود عوامل تدخل خارجية في الحالة الأولى، وعوامل ضعف داخلية في الحالة الثانية، إنما العبرة في الوزن النسبي لكلٍ منهما. وإذا وضعنا الاستهداف المباشر للأنظمة والتجارب القومية قديماً وحديثاً، وأخذنا تجربة الوحدة المصرية-السورية (1958-1961) نموذجاً لما قد يعتبره البعض تجربة وحدوية طوعية “فاشلة”، فإننا نذهب مع ياسين الحافظ إلى أنها اغتيلت اغتيالاً، ولم تفشل أو تسقط من تلقاء ذاتها، ومن ثم فقد تمّ استخدام ذلك الاغتيال لتعهير الفكرة الفكرة الوحدوية نفسها: “في 28 أيلول 1961 قُتلت وحدة العام 1958 بين مصر وسورية، أول وحدة في تاريخ العرب المعاصر. لكنّ عملية القتل هذه لم تنهِ المسألة: حقاً أن الوحدة-الجسد، الوحدة-الكيان قد اغتيلت، لكن الوحدة-الفكرة، الوحدة-المثل، الوحدة-الطوبى ما تزال قائمة. والمطلوب هو دفن الأخيرة عن طريق تعهير الأولى، التي تُلاحق بعد قتلها أكثر مما لوحقت في حياتها” (10).
إنّ الفكرة القومية تبقى إذن ضرورة موضوعية في زماننا المعاصر للأسباب الواردة أعلاه، أما هذه التجربة القومية العربية أو تلك فتبقى مجرد محاولة على طريق تحقيق تلك الفكرة التي لا خيار سواها. فهي ليست تجربة مهدورة إلا إذا لم نتعلم دروسها وتعاملنا معها كقضاء وقدر ليس إلا…
بالتحديد أكثر علينا أن نسألَ أنفسنا: ما هي الشروط التي لم تُستكمل لنجاح أي واحدة من تلك التجارب القومية العربية؟ أين أخفَقنا؟ وأين نجحنا؟ وكيف نحقق شروط النجاح في التجربة المقبلة بالرغم من اختلاف الظروف الموضوعية؟ ذلك هو التحدي الذي يواجهنا. ولو بقينا نحاول ونفشل قرنين آخرين، فإنّ نجاح المشروع القومي لن يتحقق بالأماني أو عن طريق محاسن الصدف، ولن ينجح حتى نحقق شروطه الملموسة. فإن لم ننجح، فإن ذلك يعني أننا ما زلنا نرتجل، لا نتعلم من التجارب السابقة، ولا نقرأ الواقع وتناقضاته جيداً، وهذا لا يعني بتاتاً أن الفكرة القومية التي ترشح بديهياً من ظروف الواقع العربي في مرحلة التحرر القومي، هي فكرة بائدة لا فائدة ترجى منها، بل يعني أننا معشر القوميين لم نكن بمستوى التحدي.
وكما لا يتوقع العالِم أن تنجح محاولته في المختبر من التجربة الأولى، أو أن تنجح بقوة دفع حسن النوايا فحسب، كذلك علينا أن ندرك جيداً أن تعقيد ظروف الواقع العربي المعاصر يتطلب منا أن نحقق شروطاً أصعب وأكثر تعدداً وتفصيلاً من أي تجربة وحدوية أخرى، فإذا كانت الصين قد احتاجت لسبع عشرة محاولة لكي تتوحد، وإذا كانت إيطاليا قد احتاجت لأكثر من 350 عاماً كي تتوحد، على سبيل المثال لا الحصر، فإنّ تحقيق شروط المشروع القومي العربي يتطلب منا لا أن ندرس قوانين التجارب الوحدوية العالمية في العصر الحديث فحسب، كما دأب الدكتور نديم البيطار على مطالبة القوميين، بل أن ندرسها لنتعلم القوانين العامة للوحدة، ومن ثم أن نشتق فوقها قوانين المشروع القومي الخاصة بنا. فإذا كانت تجربتنا أصعب، فلأن جائزتها أكبر، وعواقب الفشل فيها أخطر، ومخاوف أعدائنا من نجاحها أدهى وأمر، ولأن قدرنا أن نكون الأولين أو الآخرين لا توسّط عندنا، نعيش في القبر أو نرتقي إلى الصدر، وكما قالها أبو فراس الحمداني:
ونحنُ أناسٌ لا توسطَ عندنا لنا الصدرُ، دون العالمين، أو القبرُ
وقد عرف تاريخنا العربي الحديث ثلاث موجات قومية عربية كبرى تكسّرت كلّها على صخرة العوامل الخارجية أساساً، وهو ما لا يعني بتاتاً تعليق فشلنا على مِشجب الاستعمار، لأنّ العامل الخارجي، بمقدار ما يلعب دوراً سلبياً، فإنّه لا تمكن مقاومته إلا بتعزيز العوامل الداخلية الإيجابية، أي أنّ هذه الفكرة لا تركن بتاتاً للقول أن كل شيء عملناه كان رائعاً لا يشقّ له غبار إنما المشكلة من الخارج، لأن مثل هذا القول يتركنا عند نقطة الصفر من الناحية العملية. إنما تقول بأنّ قصورنا الذاتي في مواجهة العامل الخارجي هو قصورٌ حقيقيٌ لا بدّ من معالجته، ولن نتقدم للأمام حتى نعالجه، فلا بدّ من جهودٍ ذاتيةٍ عملاقة بالمقاييس بالتاريخية لمواجهة وطأة العوامل الخارجية التي لو اجتمعت على أي تجربة وحدوية أخرى في التاريخ، من ألمانيا وإيطاليا في القرن التاسع عشر إلى الهند والصين في أواسط القرن العشرين، لوجدناها تعاني اليوم مثلما تعانيه الأمة العربية في القرن الواحد والعشرين، إن لم يكن أكثر.
قلنا أن الوطن العربي عرف ثلاث موجات قومية عربية كبرى في العصر الحديث، وهي:
- الموجة التي أطلقها محمد علي باشا، على كتف الدولة المصرية، كمشروع “بروسي” عربي (من بروسيا الولاية الألمانية التي وحدت ألمانيا بالقوة العارية مع العام 1870)، والأصحّ أن نقول أن بروسيا كانت تقليداً للمشروع الوحدوي المصري، لأن محمد علي جاء قبل بسمارك بستة عقود.
قد نقلت محاولة محمد علي الوحدوية النهضوية التاريخ العربي من حالة الموت السريري إلى عتبة التاريخ الحديث، كما نَمَت على جنباتها أولى النزعات القومية في الفكر والثقافة والأدب والسياسة، وانكسرت بفعل تدخّل دولي خارجي متعدد الأطراف.
وإذا كان بعض أخوتنا الناصريين في مصر يتحسّسون بعض الشيء من اعتبار مشروع محمد علي نقطة انطلاق التاريخ العربي الحديث، انطلاقاً من دور ثورة 23 يوليو في الإطاحة بحكم أسرة محمد علي، فإنّ مثل تلك الحساسية لا تقل سطحيةً وطفوليةً عن اعتبار الموقف من أنور السادات أو حسني مبارك مثلاً موقفاً سلبياً من ثورة 23 يوليو نفسها. فمحمد علي شيء، وسلالته الحاكمة شيء آخر، ومحمد علي بعد الإذعان لبريطانيا في بداية أربعينيات القرن التاسع عشر شيء آخر عن محمد علي في عشرينيات وثلاثينيات القرن نفسه.
- الموجة التي انطلقت مع الجمعيات العربية السرية مثل “العربية الفتاة” و”العهد”، ومع الثورة العربية الكبرى في أول عقدين من القرن العشرين، وكانت مشروع شرائح اجتماعية نافذة كملّاكي الأراضي وكبّار التجار في الهلال الخصيب، والفئة المسيطرة على نقل الحجاج إلى مكة في الحجاز التي هدّد مصيرها الاقتصادي والسياسي خطّ سكة حديد الحجاز (11).
وكان هؤلاء لا يطمحون لمشروع قومي ولا من يحزنون، بل لتحسين مواقعهم ضمن الدولة العثمانية، ولذلك تمسّكوا طويلاً بمبدأ اللامركزية الإدارية ضمن السلطنة العثمانية، وظلّوا يزورّون عن فكرة الاستقلال العربي سنواتٍ طوال، لكن ألوان التياسة العثمانية في التعامل معهم، وجنوح العثمانيين لفرض سياسة التتريك القسرية في ظلّ “الاتحاد والترقي”، دفعهم دفْعاً للمطالبة بالاستقلال، وما كان ذلك مُناهم، ولم يكن خيارهم الأول. لكن خلفيتهم الاجتماعية كأعيان وملّاك أراضٍ وأصحاب مصالح كبرى يسعون للمحاصصة السياسية جعلت من نهجهم القومي انتهازياً ومتذبذباً ومجوّفاً، إن لم نقل مخترَقاً، وقد تجلّى ذلك بعدة مظاهر منها:
أ – موقفهم الخليع من التعاون مع الاستعماريْن الإنكليزي والفرنسي،
ب – التفريط بالجملة بوادي النيل والمغرب العربي، وحصْر المشروع القومي في الجزء الذي كانت تستحمره تركيا من الوطن العربي، أي جزئه الآسيوي، حرصاً على عدم إغضاب الاستعمارين الإنكليزي والفرنسي،
ج – الاستعداد للتخلّي عن فلسطين وعقد لقاءات تفاوضية مع الحركة الصهيونية،
د – الاستعداد للتخلّي عن المشروع القومي حتى في الجناح الآسيوي للأمة العربية والقبول بالتحوّل إلى ركائز قُطرية لدول التجزئة التي أسّسها الاستعمار في المشرق العربي.
بالرغم من كل ذلك، تآمر البريطانيون على حلفائهم، مما أصبح أوراقاً مكشوفة من تاريخ القرن العشرين، أولاً من خلال التعاون مع الحركة الوهابية (عبر مكتب الهند) لتُخرج “حلفاءها” من الجزيرة العربية، وثانياً عبر اتفاقية سايكس-بيكو ووعد بلفور لتفكك الهلال الخصيب وتضيّع فلسطين. وكانت تلك الموجة القومية الثانية التي هُزمت بفعل التدخل الخارجي أساساً، الذي لم تكن الطبيعة الانتهازية الرخوة والمتساقطة لقيادته نداً له حتى بما يصل إلى ربع قامة محمد علي باشا الكبير.
- الموجة التي انطلقت في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، وكان عرّابها جمال عبد الناصر في مصر، والبعث في سورية والعراق أساساً، وفيما انطلق البعث كحركة شعبية حَمَلها أبناء الطبقات الشعبية منذ البداية، فإنّ ثورة 23 يوليو بدأت كانقلاب للسيطرة على الدولة المصرية، تحوّلَ بفعل تطوّر قناعات عبد الناصر ومفاعيل شخصيته الكارزمية إلى حراك شعبي غير منظّم حَمَله أبناء الطبقات الشعبية العربية في النهاية.
الفرق بين الموجة القومية العربية الثالثة والموجتين الأولى والثانية أنها:
أ – اتّخذت مضموناً اجتماعياً شعبياً، ب – رفعت الاشتراكية العربية شعاراً، فتحوّلت إلى ترجمة للحسّ القومي عند الشعب العربي، وحوّلت الحركة القومية إلى حركة شعبية، فيما كانت تقود الموجتين القوميتين السابقتين أرستقراطية دولة أو مجتمع.
وقد دخلت الموجة القومية الثالثة منذ البداية في حالة صِدام شرس مع الإمبريالية (البريطانية والفرنسية، ثم الأمريكية)، ومع الصهيونية والرجعية العربية، وهي طبيعة الأمور بالضرورة، لأن وجود حركة قومية شعبية عربية يدقّ ناقوس الخطر عند كل هؤلاء. وقد تمّ استهداف كل المواقع القومية العربية بشكل مباشر وغير مباشر منذ الخمسينيات حتى “الربيع العربي”، وما العدوان الكوني على سورية اليوم إلا استمرارٌ لذلك الصراع الذي كان قد أسفَرَ عن تدمير العراق وليبيا.
والحديث عن استهداف خارجي فعّال ودموي، كما سلَف، لا يقلل، بل يفرض التدقيق بدرجة أكبر في الاستراتيجيات المتّبعة لمواجهته. ونرى أن إشكالية مواجهة التدخل الخارجي في حالة الموجة القومية العربية الثالثة تكمن في تركيز كلٍ منها على بناء دولتها القُطرية، ما اعتبرته أساساً لاستكمال المشروع القومي لاحقاً، على طريقة “الإقليم-القاعدة”، وكان هذا ديدن العراق ومصر وسورية والجزائر، كأنّ الإمبريالية وأدواتها سوف تترك ذلك الإقليم-القاعدة يبني نفسه على مهله ريثما يكون جاهزاً للمواجهة، وكأن مشروع التنمية الاقتصادية وحلّ الإشكالات المعيشية ميّسرٌ ضمن حدود الدولة القُطرية، وكأن تحقيق الشروط الموضوعية لتجاوز التخلف بأشكاله ممكن ضمن شروط الدولة القُطرية! لذلك، كانت المواجهات مع الخارج تُفرض فرضاً على الدول القُطرية التي حكَمها قوميون، ولم يكونوا هم الذين اختاروها، من حرب السويس عام 1956 إلى حرب الـ67 إلى العدوان على العراق إلى عدوان الناتو على ليبيا إلى المؤامرة الكونية على سورية، وكان استهداف البنية التحتية والاقتصادية التي بنَتها الأنظمة القومية جزءاً أساسياً من عملية الاستهداف، بما تمثّله من هدفٍ ثابت سهل المنال، أما في حالة النظام الناصري في مصر، فقد أشرف أنور السادات على انقلاب داخلي قام بتصفية إرث الثورة الناصرية في الاقتصاد والسياسة الخارجية ومواجهة الوهابية.
نضيف أنّ بقاء الأنظمة القومية مجزّأة ترَكَها أهدافاً أسهل للإمبريالية وأدواتها مما لو كانت جزءاً من حراك شعبي عربي واسع يقوم هو باستهداف أعداء الأمة. وقد أشرنا في الفصل الثاني من كتاب “مشروعنا: نحو حركة جديدة للنهوض القومي” إلى أنّ فكرة الإقليم-القاعدة باتت فكرة بائدة في المشروع القومي العربي، إذا كان المقصود هو تأسيس قاعدة اقتصادية وصناعية، وأن المطلوب هو أن تتحول الدول القومية إلى قاعدة سياسية لتصدير الثورة القومية إلى بقية الأقطار العربية، وقد كانت حجّتنا في ذلك هي أن:
أ – “البناء النهضوي يتطلب أولاً جهوداً عملاقة – في خضم الصراع العسكري العنيف مع قوى الهيمنة الخارجية وأذنابها – وهو ما يستنزف الموارد البشرية والاقتصادية في القطر-القاعدة إلى أقصى الحدود، في الوقت الذي لم تتشكل فيه دولة الوحدة بعد، ولم تأخذ معالمها، ولم تنعم بقدر من الاستقرار، مما يحمِّل مواطني الإقليم أو القطر العربي الذي يتبنّى استراتيجية “الإقليم-القاعدة” في العمل الوحدوي النهضوي أعباء وتضحيات رهيبة معيشية وبشرية بالنيابة عن كل أبناء الأمة العربية، تماماً كما حدث للمصريين في ظلّ محمد علي باشا وجمال عبد الناصر”،
ب – “أن عملية البناء الضخم في خضم المعركة مع أعداء الأمة، وقبل استقرار الوضع السياسي، قد يفتح الباب على مصراعيه لتدمير المنجزات العمرانية والصناعية الكبرى، المدنية أو العسكرية، للإقليم-القاعدة، من خلال القصف والعدوان العسكري كما حدث في العراق، أو من خلال الانقلاب الداخلي على المشروع كما حدث في مصر وغيرها. ومن ثمّ، قد تصبح البنية التحتية والصناعية والعلمية رهينةً، أو نقطة ضعف، يمكن أن تضربها قوى الهيمنة الخارجية بآلتها العسكرية المتقدمة أنّى شاءت، وأن نفتح على أنفسنا بالتالي أبواب الابتزاز السياسي من خلال البنية التحديثية نفسها التي ضحينا بالغالي والنفيس من أجل الشروع ببنائها (ويمثل بالأذهان هنا فوراً تهديد العدو الصهيوني بضرب أحد أهم منجزات ثورة يوليو في مصر، وهو السدّ العالي، كما ضُرب مفاعل أوزيراك في العراق!)”،
ج – “إذن، بدلاً من التركيز على بناء قاعدة صناعية واقتصادية مكتملة للوحدة العربية في قطر عربي بعينه، وبدلاً من مشروع تنموي مستحيل في قطر عربي واحد يسْهُل على الإمبريالية ضربه، لا بدّ للمشروع الوحدوي النهضوي أن يركز جهوده اقتصادياً في نواة دولة الوحدة قبل استقرارها على المشاريع الصغيرة، أو مشاريع استصلاح الأراضي، وتلك التي لا يمكن ضربها عسكرياً (مثل محو الأمية)، أو المشاريع التي تسهل نسبياً إعادة بنائها (مثل المدارس والمستشفيات والجامعات) مقارنة بالمصانع الكبرى مثلاً أو الأبنية والجسور الضخمة”،
وعليه وصلنا إلى الاستنتاج التالي: “وما عدا ذلك، فإن الإقليم-القاعدة يجب أن يوظف موارده وإمكاناته في العمل السياسي في بناء “نواة دولة الوحدة” خارج حدود القطر، أي في “تصدير الثورة القومية” إلى عموم الأرض العربية، وفي بناء نواة دولة الوحدة في أكثر من قطر عربي واحد على طريق الوحدة الشاملة.”
“فربما علينا أن نفكّرَ من الآن فصاعداً لا بإقليم-قاعدة لبناء الوحدة العربية يسهل ضربه، بل ببناء “الحركة-القاعدة”، أي ببناء حركة سياسية وتيار شعبي يخترق الحدود العربية ويستطيع أن يستمر ضمن السلطة وخارجها، حركة تنبع من قلب الشعب العربي وإرادته من أجل بناء قاعدة مستقرة لمشروع الوحدة على الأقل على جزء من الوطن العربي، حركة لا يدفع فاتورة تضحياتها الكبرى قطر عربي واحد، ولا تكبّلها معادلات التجزئة القُطرية.”
“إذن الدولة-النواة يجب أن تكون إقليم-قاعدة بالمعنى السياسي والتنظيمي، وربما العسكري، لكن ليس بالضرورة بالمعنى الاقتصادي أو التكنولوجي، خاصة أنّ مشروع وحدتنا لا تقوم به برجوازية صناعية، كما حدث في التجارب القومية في أوروبا في القرن التاسع عشر. مشروع وحدتنا يتمّ من خلال ولادة قيصرية، لا من خلال تطوّر طبيعي لبرجوازية عربية نجحت بخلق تطوّر اقتصادي-اجتماعي ببعض الأقاليم المركزية في الأمة. لذلك نحن نحتاج لإقليم-قاعدة بالمعنى الثوري فقط، حتى تتحقق الوحدة ويتحقق التحرير، وبعدها نشرع بعملية التنمية بهدوء واطمئنان” (12).
في الخلاصة، نشير إلى أن الوحدويين العرب المخلصين يتفقون جميعاً على هدف تحقيق الوحدة والتحرر من التبعية والاحتلال وتحقيق النهضة الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية، ويتفقون جميعاً على أولويات محاربة التجزئة والتخلف والتبعية والاحتلال. لكن الوقوف عند هذه النقطة لا يغني كثيراً، ولا يفيدنا كبرنامج أو دليل عمل. فالسؤال الحقيقي يبقى: من أين نبدأ؟ ومن بين مشكلات الواقع العربي المعاصر، ما هي الحلقة المركزية التي نفلح بإمساك مفتاح الحل إن أمسكنا بها؟ ومن بين ثالوث التجزئة والتخلف والتبعية، ما الذي يفترض أن نضع مركز ثقلنا في مواجهته أولاً؟
إذن العبرة في تحديد استراتيجية العمل تكمن في تحديد الحلقة الأهم والأخطر، فالأطفال وحدهم يريدون كل شيء فوراً هنا والآن، ومن يقول. أن كل تلك العوامل، وغيرها ربما، على نفس المقدار من الأهمية، لا يقول عملياً أي شيء على الإطلاق إذا كان الهدف هو وضع خطة مواجهة، لا التعداد الأكاديمي لجملة العوامل التي تنتج معظم السوء في حياتنا العربية المعاصرة.
هنا ينقسم القوميون إلى فئات. فياسين الحافظ مثلاً يركز على أهمية الوعي في مواجهة التأخر والتخلف، كما في كتاب “الهزيمة ونقد الأيديولوجيا المهزومة”، ومع أن صادق جلال العظم لم يكن قومياً، فقد رَبَط فكرة الهزيمة بالتخلف، وهي مدرسة ذات تلاوين مختلفة ينتمي إليها عددٌ من المثقفين العرب، العروبيين وغير العروبيين، ممن قد يركّز على تخلف العقلية أو التخلف الاجتماعي أو التأويل الديني كأساس لتفسير حياتنا العربية المعاصرة، ومن فروع تلك المدرسة من يجعل المفصل الرئيسي هو التخلف الاقتصادي والصناعي والتكنولوجي، فيذهب باتجاه جسر الهوّة من خلال السعي لتحقيق قفزة في التنمية في قطر عربي واحد، وهو ما فعله معظم القوميين الذين وصلوا للسلطة في عدة أقطار عربية، مما تركهم أسرى منظومة التجزئة، وترك أنظمتهم رهينة ما يحققونه من إنجازات في ذلك المضمار. وهنالك من يجعل من تخلّف البنية السياسية للدولة وضرورة بناء المؤسسة السياسية وتطويرها، مفتاح التغيير الحقيقي في الوضع العربي.
ونحن بدورنا لا ننكر حقيقة التخلف بأشكاله المختلفة، ولا ننكر حقيقة التجزئة، ولكننا نرى أن تجاوز التجزئة هو المقدمة الضرورية لإزالة التخلف، ونرى بأن الاستعداد لمحاربة الإمبريالية وأدواتها هو المقدمة الضرورية لإزالة التجزئة. ونرى بأنّ المناورة لتجنب الصدام مع الإمبريالية وأدواتها ريثما يتم بناء القُطر وتحويله إلى إقليم-قاعدة، أو ريثما تتاح الفرصة لنشوء فيدرالية أو كونفدرالية بين أقطار عربية مختلفة تحافظ على بنيتها القُطرية، قد أثبت فشله وعدم جدواه، فضلاً عن أن هذا يترك التصدّي للعدوان الإمبريالي وأدواته لقوى غير قومية سوف يعطيها المصداقية في الشارع على حساب النهج القومي.
عليه نرى أن مفتاح التغيير في الوضع العربي، وفي إعادة إحياء المشروع القومي، هو انخراط القوميين في محاربة الإمبريالية وأدواتها سياسياً وعسكرياً وثقافياً وعلى جميع الصعد، وأن يلعب القوميون الدور الأكثر رياديةً في ذلك المضمار، وهو الخيط الرفيع الذي يتخلل كل كتاب وخطوة عملية وأطروحة فكرية أو سياسية قدمها بها الراحل ناجي علوش.
لقد حانَ الوقت لإطلاق موجة تاريخية قومية رابعة عِمادها التصدي للإمبريالية والصهيونية وأدواتهما، موجة شعبية جديدة عمادها الطبقات الشعبية، تضع نصْب عينيها منذ البداية أنها مشروعٌ قوميٌ مقاتل، وأن مواجهة الإمبريالية والصهيونية وأدواتها من دون أفق قومي يقود لخيانات مثل أوسلو ووادي عربة بالرغم من كل التضحيات، أو يمكن تجييره لغير مصلحة الأمة، وأن النهج القومي الذي لا يجعل مواجهة الإمبريالية والصهيونية وأدواتهما مشروعه الأول يحكم على نفسه بالتهميش، أو الحصار، وأن يُقضى عليه في المحصلة.
باختصار، إعادة إحياء التيار القومي تتطلب إعادة بنائه بما يخدم أولوية مناهضة الإمبريالية والصهيونية، والقوميون لم يكسبوا الشارع ولم يصنعوا تاريخاً إلا في خضم المواجهات المفروضة عليهم مع الإمبريالية والصهيونية وأدواتهما، والأساس ألّا تكون مفروضة علينا، بل أن نكون مستعدين لها، لا بل أن نبادر بها، والحديث ليس عن حروب نظامية بكل تأكيد إذا كانت مثل تلك المسألة البديهية بحاجة إلى توضيح…
الهوامش:
- الشرق الإسلامي في العصر الحديث، د. حسين مؤنس، مطبعة حجازي، القاهرة، الطبعة الثانية، 1938، ص 25.
- أوردها د. ذوقان قرقوط في الفصل الذي أسهم فيه في كتاب “الحركة العربية القومية في مائة عام”، إشراف وتحرير ناجي علوش، دار الشروق، عمان، الطبعة الأولى، 1997، ص 54.
- المصدر السابق.
- سياستان إزاء العالم العربي، يونداريفسكي، دار التقدم، موسكو، الطبعة الأولى، 1975.
- المصدر السابق.
- في المسألة القومية الديموقراطية، ياسين الحافظ، دار الحصاد، دمشق، الطبعة الثانية، 1997، ص 131.
- المصدر السابق، الصفحات 121-134.
- حركات الإسلام السياسي كمنتج للحداثة الغربية، إبراهيم علوش، مجلة “طلقة تنوير”، العدد 31، 1 كانون أول 2016، ص 18-21.
- انظر “هل انتهى عصر الفكر القومي حقاً؟” في كتاب “من فكرنا القومي الجذري”، إبراهيم علوش، دار ورد، عمان، 2014، ص 29-32.
- انظر الفصل المعنون “حول تجربة الوحدة المصرية-السورية” في المسألة القومية الديموقراطية، ياسين الحافظ، دار الحصاد، دمشق، الطبعة الثانية، 1997، ص 110.
- انظر “فكرة الوحدة العربية في مطلع القرن العشرين”، د. وليد قزيها، في كتاب “دراسات في القومية العربية والوحدة”، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 1984، ص 215-236.
- مشروعنا: نحو حركة جديدة للنهوض القومي، إبراهيم علوش، دار ورد، عمان، الطبعة الأولى، 2009، ص 94-96.
من يملك التكنولوجيا يملك التاريخ
العصر الجينومي والتلاعب بالهويات
فؤاد بدروشي
لا تنفكّ مراكز الأبحاث والدراسات الأجنبية والتابعة للإمبريالية عن نشر “دراسات” جديدة تبت في عراقة الوجود العربي وتروج لفكرة أن الوجود العربي خارج المشرق العربي هو احتلال، وقد ذهبت أخرى لحصره في الجزيرة العربية. ولعلّ نقاط التقاء هذه المراكز هي نفس الأهداف الإمبريالية واعتمادها زوراً على علم الجينوم والوراثيات.
وعلم الجينوم هو العلم المرتبط بدراسة الحياة على أساس الجينات، ويعتبر من أهم ما توصّل إليه الإنسان في مجال التقدم العلمي والتكنولوجي وقد انتقل بالحياة البشرية نقلة نوعية في شتى المجالات.
كثرت هذه الأيام الأحاديث عن الهوية العربية للوطن العربي، وكثرت الألسنة والأقلام الغربيّة التي تشكّك في عروبة سكان الوطن العربي وتحاول تجريد هذه المنطقة من عروبتها، وتحاول أن تنفي الهوية العربية من شمال أفريقيا وبلاد الشام، تلك العروبة التي تجري في عروقنا تماماً كما الدم.
قرأنا كثيراً من المواضيع والبحوث التي كتَبها أناسٌ لا أرجّح كونهم جاهلين، لكنّهم حاقدون ووكلاء لدى الإمبريالية العالميّة يريدون تشويه صورة العروبة بأي ثمن، ويخطفون الفرص ويبحثون عن المبررات بأي وسيلة لتجريدنا من أصلنا العربي، وجميع هذه الأقاويل التي تتحدث عن أن الهوية العربية في جلّ أرجاء الوطن العربي لا أساس علمياً مؤكّداً لصحتها، وهي تذهب إلى أنّ الدم العربي وإن وجد في عروقنا فهو مجرّد خلطة لا تتعدى 10 %، وقد يذهب البعض لـ5 و4 %، وهذا كلام خاطئ وخطير ولا يستهان به في أي حال من الأحوال، لأن هويّات الشعوب ليست لعبة وهي من مدعّمات بقائها ودوامها واستمرارها على مدى العصور، ومع أننا نرفض رفضاً باتاً فكرة ربط القومية بالعرق، فإننا نجدهم يخلطون الحابل بالنابل حتى في هذا المضمار.
العرب في شمال أفريقيا أو الشام لم تدّعي العروبة وتنسبها إلى نفسها بنفسها، فهؤلاء لهم أنسابٌ محفوظة ومعروفة ويشهد لها التاريخ، وتلك الأنساب مدوّنة ومسجّلة (وهي لا تحتاج إلى تدوين) في كثير من المراجع والكتب التاريخية المعروفة والموثوقة، ولا يستطيع أحد أن يشكّك فيها أو يخدشها أو ينفيها مهما كان “عالماً” ومهما كان عدد السنين التي أمضاها في دراسة عالم الجينوم وعلم الاجتماع، ومهما كان سُمْك عدسات النظارة التي يضعها أمام عينيه .
وردًّا على مثل هذه الدراسات أثبتت الدراسات الجينيّة الغربيّة منها قبل العربيّة أنّ ثمة جينيان يتكرران بكثافة لدى العرب بشكل مختلف عن بقية شعوب الأرض، وهذان الجينان هما اللذان يميزان العرب عن غيرهم. الجينJ، الذي يغلب من الجناح الآسيوي من الأمة العربية، والجين E1b1b، الذي يغلب في شمال أفريقيا، وكلاهما موجود بكثافة في الجناحين الآسيوي والأفريقي للأمة العربية. مثلاً، اليمن تتضمن أعلى نسبة من الجين J، وهي 82% من السكان، يليها الجين الآخر بنسبة 13%، وأحد تفريعاته بنسبة 3%، ما يقارب النقاء العرقيّ. الفلسطينيون لديهم الجين J بنسبة 50% والجين E1b1b بنسبة 20% ، التونسيون لديهم الجين E1b1b بنسبة 50% والجين J بنسبة 36%، مما يعني أن التونسيين عربٌ أكثر من الفلسطينيين، والجزائريون لديهم الجين E1b1b بنسبة 55% بالمئة، والجين J بنسبة 35 بالمئة، مما يعني أنهم عربٌ أكثر من التونسيين، والمغاربة لديهم الجينE1b1b بنسبة 76% والجين J أكثر من 20 بالمئة، بما يقارب النقاء العرقيّ… السوريون لديهم الجين J بنسبة 58% والجينE1b1b بنسبة 12%… الجين اليمني غالب في المشرق، والجين القيسي غالب في شمال أفريقيا… وهذه معلومات عامة يمكن إيجادها مع مراجعها على الرابط المرفق في آخر المقالة.
Y-DNA haplogroups by populations of Western Asia, North Africa and South Caucasus
هابلوغروب (صبغيY ) لسكان غرب آسيا وشمال أفريقيا وجنوب القوقاز
كما أنّ هذه المراكز تتلاعب بالحقائق حين تتجاهل أو تنفي العروبة عن الجين العربي E1b1b الذي يسمّونه شمال أفريقي فهو جين عربي موجود بكثافة في المشرق العربي كما هو مبيّن أعلاه، بدلالة وجوده في المشرق العربي واليمن بكثافة 13% وعند قبائل البدو في البادية المشرقية بنسبة 19%، وفي الأردن ولبنان مثلاً بنسبة 25%، وهنا أنصح السادة القرّاء بالتوجّه إلى أدبيات علي فهمي الخشيم وسعيد الدارودي وعثمان صالح السعدي عن العلاقة بين البربر ومنطقة عُمان واليمن. وكيف يكون جين شمال أفريقي منتشراً لهذه الدرجة في البادية العربية المشرقية، بنسبة واحد من أربعة؟ والبادية مغلقة، وليست على البحر، أو محاذية لشمال أفريقيا مثل ساحل فلسطين ولبنان ؟
التوزّع منذ القدم للأنساب الكبرى لجين E1b1b (E-M35).
التوزّع منذ القدم للأنساب الكبرى لجين E1b1b (E-M35).
وهذه المقالة أتت لتنفي الأساس الجيني لتحديد الهويات لذلك لم نرد التعمّق في دحض المغالطات باستخدام علم الجينات أيضاً وبأقلام علميّة غربيّة أثبتت عروبة سكان المشرق العربي.
وقبل الحديث عن تلاعب الباحثين الغربيين بخصوص الدراسات العرقية والجينيّة علينا توضيح مفهوم العروبة والقومية العربيّة، ويجري اصطلاحاً استخدام العروبة بمعنى مرادف للقومية.
فالعروبة هي انتسابٌ إلى العرب، وتعني فقط الانتساب المجرّد عن المعنى السياسي. والقومية عند البعض تعني القوم المنحدرين نسَباً من صلْب جدٍ واحد. ومن التطور التاريخي انسَلَخ مصطلح القومية عن جذوره اللغوية فأصبح معناه قريباً من معنى الأمة. والقومية العربية هي الانتماء إلى الوطن العربي العريق في عروبته والمتنوّع بتاريخه، فمخطئ من يعتقد أنّ القوميّة العربيّة هي عصبيّة عرقيّة وأننا كقوميين نصنّف الأمة العربيّة على أساسٍ عرقي صافٍ، والإيمان بمثل هذه الترّهات هو هراء، ففي القرن الواحد والعشرين يستحيل الحديث عن أعراق بل يجب الحديث عن أمم وكيانات حضاريّة تاريخيّة جغرافيّة ثقافية قوميّة مشتركة، والوطن العربي عامة والمغرب العربي خاصة ونظراً لأهمية موقعهما الاستراتيجي في قلب العالم كانا مطمع كل الأمم للغزو والسيطرة، فقد مرت مئات الحضارات والأقوام على وطننا العربي وقبَعوا لفترات متفاوتة ما سمح لبعضهم دون البعض الآخر أن يمتزجوا معنا ويتركوا صبغاتهم الجينيّة في دمائنا، وبقية هذه الجينات تتنقل مع الزمن ومع تطور البشر هناك حتى اختلطت الأجناس والأعراق وامتزجت الجينات فأصبح مستحيلاً الحديث عن عرقٍ صافٍ أصيل، وهذا الكلام ينطبق على جلّ الأمم. والقوميّة العربيّة هي الوعاء الجامع للأمة العربيّة وليس للعرق العربي، والأمة العربيّة هي سكان الوطن العربي الناطقين بلغته، المتعلّقين بتاريخه، المتجذرين في أرضه والمشتركين في تاريخه. وهنا نضع النقاط على الحروف لنضع شروط تكوين الأمة: الجغرافيا المشتركة والتاريخ المشترك والثقافة المشتركة والمصالح والأهداف المشتركة وأخيراً اللغة المشتركة. وكل هذه المواصفات تنطبق على سكان الرقعة الجغرافيّة الممتدة من سبتة ومليلة إلى جبال زاغروس. ولنلاحظ أنّ العِرق لم يكن ضمن محدّدات تشَكُّل الأمة. لذلك فإنّ كل من يتّهم القوميّة العربيّة بالعصبيّة والعنصريّة والعرقيّة إما أنه جاهل أو متجاهل يعمل ضمن منظومة إمبرياليّة تسعى إلى تدمير الوطن العربيّ الأمة العربيّة وزجّها في حالة من فراغ وصراع في الهوية وفتن عرقيّة.
لعل الرسول محمد (ص) قد حَسَم في الافتراءات حول عصبية وعرقيّة وعنصريّة القومية العربية فقال قوله: (أيها الناس ليست العربية بأحدكم من أب ولا أم، وإنما هي لسان، فمن تكلّم العربية فهو عربيّ) فسكّان الوطن العربي والبيئة التاريخيّة العربيّة هم عربٌ دون الدخول لجيناتهم.
ونعود هنا لنفهم كيف يقوم البعض بتوظيف علم الجينوم بطريقة غير محايدة إطلاقاً ويستغلون سذاجة البعض، ومنهم من يحسب وللأسف على الطبقة المثقفة، فيصبح كالببغاء يعيد ما تمليه هذه المراكز التابعة للغرب على أساس أنها بحوث علميّة مبنيّة على أسس جينِيَّة وتكنولوجيّة لا يمكن تفنيدها، دون أن يدركَ أن الفكرة من أساسها خاطئة وغير سليمة ولا يصحّ تطبيقها لتحديد وجود وهويّة الأمم الضاربة في التاريخ.
على سبيل المثال نضع أمام أيديكم مثال مشروع “جينوغرافيك”، الذي أطلقته “ناشيونال جيوغرافيك” منذ عام 2005 الذي ادّعَوا أنه يهدف لاستخدام العلم للإجابة عن أسئلة البشر حول الجذور والعرق وأصل البشر. وسندرج لكم فيما يلي توصيفهم لبرنامجهم:
“تمّ تصنيف كل دولة وفق التركيبة الجينية، وذلك استناداً إلى مئات العينات من الحمض النووي التي أُخضعت لتحليلات بأحدث الطرق المتطوّرة، لإعداد قائمة لمجموعة مرجعية من السكان لغرض دراستها، حيث ضمّت القائمة المرجعية أربع دول عربية.”
ويضيفون: “جدير بالذكر أنّ المشروع احتوى على أربعِ جنسيات عربيّة فقط في قائمته المرجعية، فيما يلي بعض الاكتشافات المذهلة حول التركيبة الجينيّة لهذه الجنسيّات الأربع.
التركيب الجيني للمصريين الأصليين يشمل 4% من اليهود المشتتين في العالم.
كما يشمل التركيب الجيني للمواطنين المصريين النسب الآتية: 68% من شمال أفريقيا و17% من العرب، و4% من اليهود المشتتين، و3% من كل من شرق أفريقيا وآسيا الصغرى وجنوب أوروبا.
يشمل التركيب الجيني لسكان لبنان الأصليين 44% من العرب و14% من اليهود و11% من شمال أفريقيا و10% من آسيا الصغرى و5% من الجنوب الأوروبي و2% من شرق أفريقيا. “
وسرعان ما انتشر الخبر كالنّار في الهشيم وعجّت به مواقع التواصل الاجتماعي وكان العنوان الرئيسي: “جينيّاً: العرب ليسوا عرباً حقاً … التونسيّون هم فقط 4% عرب”. هنا وللوهلة الأولى يصعق العقل العربي ويهمّ ليقرأ ما في هذه “الدراسة” ويبدأ دور الجهات الراعية للقناة والبرنامج بالتلاعب بالعقول. وهنا نرصد أهم هفوات قاتلة تهوي بالبرنامج كلّه وتدحض ما تمخّض عنه:
- البحث اعتمد على مئات الأشخاص، والدول العربيّة التي ادّعَوا أنهم أجرَوا على “سكّانها” فحوصاً يتعدى عدد هؤلاء السكان فيها الملايين لعشرات الملايين، فهذا البحث ليس علميّاً بالمرة.
- ثانياً، والخطير أنّهم يصنفون اليهود كعرق وأمة و”قوميّة”، وهو أمر يؤكد على حقيقة من يقف وراء البرنامج والدراسة التي أجريت.
أقراص تمثيليّة لنسب الأقوام المكونة لتونس ومصر على حسب مزاعم “جينوغرافيك”
كلّما تقدمنا في الزمن كلما تطورت وسائل الاتصال والتواصل والتنقل والاختلاط بين مختلف الجنسيات والأعراق والإثنيات ما بين شعوب بلدان العالم، كلما بطلت المرجعيات العرقية وكلما أصبحت الدراسات الجينية لا تعكس الواقع والتاريخ. وأغلب هذه الدراسات النافية لعروبة العرب والتي تروَّج لنا لا تعتني إلا بتفكيك العرب وتجميع اليهود وتحاول إيجاد رابط وهمي “قومي” يربط اليهود من مختلف الجنسيات والأعراق.
وهنا نلخّص بأن الموقف السليم هو:
- الجينات ليست مقياساً، ومقياس القومية ليس عرقياً،
- إذا كان الأمر يتعلق بالجين الشمال أفريقي، فهو منتشر بقوة في البادية المشرقية وجنوب الجزيرة العربية وهو منتشرٌ في المشرق العربي أكثر مما هو عند الشعوب الأخرى في المنطقة.
- بجميع الأحوال، أرقام “ناشيونال جيوغرافيك” غير دقيقة، ونسبة الجين J في دول المغرب العربي أعلى بكثير مما يزعمون، بحسب الدراسات الغربية.
أخيراً نقول إنَّ علم الجينوم الذي غيّر تركيبة الكائنات والذي أوصلنا للاستنساخ وتحسين السلالات وتغيير أخرى تغييراً شاملاً يمكن أن يوظَّف في استنساخ أمم أخرى وقوميات جديدة وفسخ أخرى في الجهة الأخرى. ومن يملك التكنولوجيا يملك التاريخ، لذلك علينا إعادة اقتحام عالم التكنولوجيا والعلوم.
روابط ذات صلة:
Y-DNA haplogroups by populations of Near East
https://en.wikipedia.org/wiki/Y-DNA_haplogroups_by_populations_of_Near_East
Haplogroup « E1b1b » E-M215 (Y-DNA)
https://en.wikipedia.org/wiki/Haplogroup_E-M215_(Y-DNA)
العرب أصلهم ليس عرباً…مفاجأت مذهلة في التحليل الجيني:
DNA analysis proves Arabs aren’t entirely Arab
The National Geographic’s Genographic project gives us surprising information about Arabgeneticmakeup.
في نقد التديّن السياسي
بشار شخاترة
شكّل الدِّين عبر العصور نوعاً من الجاذبية للإنسان، ولا تكاد تخلو حضارة من الحضارات القديمة من تماثيل للآلهة أو نقوش تبيّن العبادات والطقوس الدينية، والمظهر الدال على هذه الجاذبية الإنسانية نحو عبادة إله أو قوة علوية يركن إليها الإنسان في أوقات ضعْفه هو ما يسمى بالتديّن، فهو المعبّر عن العلاقة بين الربّ المعبود والعباد بسلوكهم وطقوسهم.
لم يكن التديّن في العصر النبوي يتجاوز فكرة أنّ الإنسان يتقرّب إلى الله بالعبادات ويبتعد عن النواهي، وما عدا ذلك كانت القاعدة أنّ الأصل في الأشياء الإباحة وما كان يشْكُل على الناس كان يُرَدّ إليه صلى الله عليه وسلم، وضمن هذا المفهوم ليست لنا حاجة بمناقشة موضوع التديّن، لكن المسائل اختلفت بعد ذلك وإن كان لا يشتّ في المعنى عما هو مطبّق في العهد النبوي، فحتى في عصر الخلفاء الراشدين والعصر الأموي كانت الناس حديثة العهد بالإسلام ولم تكن هناك فواصل زمنية كبيرة بين عهد النبي (ص). ففي عصر الراشدين وحتى الأمويين كان الصحابة لا يزالون على قيد الحياة ومسألة تطور فكرة العبادة والتديّن لم تكن تثور بالمعنى القائم اليوم مثلاً، ولأنّ الدولة في ذلك العصر كانت منشغلةً بعملية بناء ذاتها، إضافة إلى الفتوحات التي كانت شُغْل السياسة الأول في تلك الفترة.
ففي الدولة التي تأخذ على عاتقها عبء حمْل الرسالة ليس للأفراد من دور فريد يقومون به في هذا المجال، ولكن في العصور التي تلت، وتحديداً عندما أصبحت الدولة أكثر استقراراً ومواردها أكثر غزارةً، وبعدما راحت تتوسع في مجال العلوم والترجمة، ولابتعاد المسافة عن عصر الرسالة النبوي أو عصر حتى من حملوها من الصحابة، بدأت مفاهيم جديدة تدخل على موضوع التديّن مترافقة مع تطور ثقافة المجتمع الآخذ في تلقّي علوم الأمم السابقة وهضمها وإعادة إنتاج الفكر الإنساني، ولعلّ من أهم ما ترك أثراً في إدراك الأثر المهم للتديّن عند الناس هو ما حققته الدعوة العباسية من نجاح وصل بها إلى السلطة، وكان ذلك باستغلال التديّن لدى الناس وتأويل هذا التديّن سياسياً لمصلحة أهل البيت النبوي، فراح يدخل في باب التدين عند الناس أن التديّن لا يكتمل إلا بالتقرّب من البيت النبوي مما يوْجِبُ أنّ الخلافة لا بدّ أن تكون فيهم دون غيرهم، والحقيقة أن العباسيين استغلّوا هذه النقطة وحوّلوها لصالحهم من البيت الطالبي إلى البيت العباسي.
لم تظهر من رقابةٍ على تديّن الناس سوى ما جاء به الخوارج، فكانوا ينعتون الناس بالردّة والكفر بما فيهم الأئمة والخلفاء، فإنّ ظاهرة قياس معايير التديّن عند الناس بما يستتبع صحّة ديانة الناس وبقاءها على دينها لم تكن سائدةً في العصور الأولى للإسلام، ويمكن الإحالة إلى عدد طلقة تنوير رقم (31) ورقم (6) لمزيد من الاطّلاع على تطور فكرة التكفير المرتبطة بمفهوم التديّن.
يُشار في دراسة القانون إلى دعوى الحسبة، وهي إقامة الدعوى حسبة لله أو تقرّباً منه، وهذه الدعوى من وجهة نظر القانون تفتقد إلى أساس الصحة حيث يقول الفقه القانوني بأنّ مناط الدعوى هو المصلحة، فإذا انعدمت المصلحة انعدمت الدعوى ولا تُسمع، وإذا سُمعت فهي مردودة لذلك.
لكنّ دعوى الحسبة تأخذ مكانها بحيث يصبح المدّعي فيها نائباً عن الهيئة الاجتماعية في رفع الدعوى وبما يشبه تماماً دور النيابة العامة في تقصّي الجرائم وإقامة دعوى الحق العام، إلا أنّ الفارق أن دعوى الحسبة موضوعها التعدّي على الدين والقيم الدينية، أو بمعنى أكثر دقّة الرقابة على تديّن الناس، وهذا النوع من الدعوى معروفٌ في مصر مثلاً.
الحسبة نشأت في عصر المأمون وكانت ذات دور اجتماعي اقتصادي، ومهمّتها الرقابة على الأسواق لتتطور وتتشوّه لاحقاً في العصور المملوكية والعثمانية إلى ما يشبه التجسّس على الناس، فأصبح المحتسب رقيباً على كل شيء وهو القاضي والجلاد في نفس الوقت بما له من سلطات واسعة، ولما انتهت الدولة العثمانية بعد الحرب الأولى عام 1924 بمعنى انتهاء الدولة الدينية، أصبحت الحسبة من حق كل فرد في المجتمع، ففي معظم الأقطار العربية لا توجد دعوى الحسبة بالمفهوم القانوني – باستثناء مصر – سوى ما يمارسه الأفراد على بعضهم في هذا المجال.
التديّن في العصر الحاضر، وبسبب غياب “الدولة الدينية”، وبسبب القرصنة التي يمارسها “الشيوخ” على عقول الناس، أصبح وسيلة للسيطرة على عقول المؤمنين واستغلالاً لهذه النقطة في بسط نفوذ جماعات الأئمة والوعاظ على العامة من الناس، فلو تأمّل القارئ خطبة الجمعة أو درساً دينياً أو موعظةً في بيت عزاء لأي من هؤلاء الذين يلتحفون بالدين، لوجدنا عجباً من طرقهم في وضع الناس في قوالب من التديّن يحتكرون أبوابها ومفاتيحها، بحيث يخرج السامع لهم وقد تمّ توجيه التفكير لديه باتّجاه من يتصدى لمسألة الوعظ، فهم يضعونه في قالب من الرهبة من العذاب بسيلٍ من الأحاديث والآيات يتلوها الترغيب بالجنة وبما لذّ وطاب، ولا ينسون أن يثيروا الغرائز الجنسية بوصف الحور العين ونساء الجنة والقوة الجنسية التي يتمتع بها الرجل في الجنة، ليخرج المتلقي بعد سلسلة من الجلسات والمواعظ وقد تعبّأَ بطريقة انتهازية تربّي فيه الأنا والبحث عن خلاص ذاتيٍّ بالتقرّب إلى الله.
إنّ خطورة الطريق المتّبع في ممارسة الرقابة على تديّن الناس وفي توجيه هذا التديّن، أنّ الشخص يجد نفسه غارقاً يبحث عمن يتلقّفه، فقد تجده جماعة صوفية أو جماعة سلفية تكفيرية أو جماعة سياسية دينية أو يوكل الشخص إلى فقهاء ووعاظ السلطان الذين يقنعون الأفراد بأنّ تديّن الإنسان ينجي من عذاب شديد ويمهّد له طريق الجنة، فخلاصه الفردي يقتضي العمل من أجل ذلك فيتلهّى الإنسان بذاته عن قضايا مجتمعه، وعلى جميع المحاور التي سبقت فإنّ سير الإنسان المتديّن المبتلَى بتديّنه من قبل أولئك النفر الذين يحتكرون الوصاية على الدين يسير في مسلك غير محمود ولا ينتج سوى أناس يتعاظم لديهم الحسّ الفردي أو أناس لديهم حسّ بالجماعة لكنه موجّه بطريقة أشد خطراً من الأولى بما يصل بالإنسان إلى مواضع التكفير والإرهاب الديني، وفي كل ذلك يأخذ التديّن بالإنسان المتديّن طريقاً لا يمتّ بحقيقة التديّن التي جاء بها الدين، ويوظّف الإنسان تبعاً لرغبات من يسيطر على تديّنه، فإذا وجدنا أنّ ما يقدّم للمتلقين لا رقابةَ عليه من أي مرجع ديني وازن، فعندها يمكن فهم هذا الكمّ من الجنون والتطرّف والتأويل الخاطئ للنصوص الدينية وتحديداً القرآنية منها، علاوةً على التوظيف الواسع للحديث النبوي وفي كثير من الأوقات على حساب النصّ القرآني.
في أجواء التسابق على المنابر في المساجد أو في غيرها، أصبح الناس مطيّةً لهؤلاء، لا بل أصبح الكثير من العامة يمارس نفس وسائل شيوخهم، بعلم أو بدون علم في معظم الأوقات، فهم يمارسون ذات الوسائل ويرددون ذات الكلمات، وإذا لزم الأمر يستنبطون الأحكام كشيوخهم أيضاً والذين غالباً ما يفتقرون إلى العلم الشرعي، عداك عن أن العلم الشرعي جرى عليه الكثير من الأخذ والرد تبعاً لخلفية الأئمة السياسية في عصورهم، وبما يتلقّفه الإنسان البسيط أو حتى المتبحّر بالدين في كثير من الحالات على أنه حقائق مسلّمة من دون نقاش علمي عقلي للنص أولاً وللمناسبة المصاحبة للنص ثانياً ولظروف العصر الذي صدرت فيه الفتوى أو الحكم الشرعي ثالثاً، ومن نافل القول أن من يحترفون مهنة الوعْظ والإرشاد، لا ينسون ربط المتلقين عنهم بهم، من خلال توظيف نصوص غالباً ما تكون إما أحاديث تحتاج إلى تحقيق وتثبّت مع مدى انسجامها مع القرآن أو بالاستناد إلى أقوال فقهاء وظّفوا نفوذهم وهالتهم الدينية في عصورهم على الأتباع، بحيث يحتكر الشيخ الفتوى ويحتكر التوجيه والاستنباط والتأويل، وفي هذا لا ننازع في أحقية العلماء بذلك على أن يكونوا فعلاً علماء بمعنى الكلمة، يعمِلون العقل في الاستنباط والتأويل بما يتّفق مع روح العصر، لا أن يستجروا فتاوى وأحكام وجِدت مجللة بثقافة زمانها وتطوره وظروف مكانها والخلفية السياسية لمن وضعها.
فكل متدين من العامة وبدرجات متفاوتة يمارس الحسبة ويرفع ويخفض ويدخل في الدين ويخرج منه تبعاً لهواه، وفي هذا الجو المتديّن ولا نقول الديني، للفرق الشاسع بين المعنيين، تجد ظاهرة التكفير ضالّتها، من حيث بُنْيتها المركّبة القائمة على النصوص الفقهية المبتورة والمشوّهة، والأهم بما يوفره هذا المناخ من حاضنة جاهزة للتكفير والتكفيريين، فليس في الفراغ يندفع هذا الجنون التكفيري في وطننا العربي، بل إنّ أرضية التديّن التي شوّهها المتدينون بما جرى عليها من إضافات تجاوزت فكرة التديّن الصحيحة والمرغوبة.
إنّ ظاهرة التديّن، بحكم أن فيها جوانب غريزية تدور مع وجود الإنسان من حيث الميل للعبادة، إلّا أنها لم تعد تنطوي على مثل هذا المعنى الجميل، بل إنها تأخذ أشكالاً متعددة تناوَلها علم النفس بالتفسير والتحليل للمتديّن، وفي هذا يضع الدكتور محمد المهدي عالم النفس بجامعة الأزهر تقسيماً للتديّن يستحق الاطّلاع، فقد قسّم التديّن إلى عشرة أقسام:
- التديّن المعرفي، وأساسه معرفة أحكام الدين ومفاهيمه على أساس عقلي ناقد، ويمتلك الشخص الذي ينطبق عليه هذا الوصف مقدرة على الحديث والكتابة في الشأن الديني من دون أن يكون من الناحية السلوكية والعاطفية كذلك، أي أنه قد لا يكون متديّناً بالمفهوم المسْلكي.
- التديّن العاطفي “الحماسي”، ويظهر على شكل عاطفة دينية جارفة وحماسة قوية للدين مع الجهل بأحكام الدين وتعاليمه ومفاهيمه، وهذا يظهر أكثر لدى الشباب حديثي التديّن.
- التديّن السلوكي”تديّن العادة “، وفي هذا النوع يمارس الشخص العبادات فقط من دون معرفة كافية بأحكام الدين، ويظهر أثر العادة الاجتماعية أوضح من الأثر الروحي والعاطفي الذي يكاد يكون منعدماً أو باهتاً.
- التديّن النفعي”المصلحي”، وهنا تظهر على الشخص المظاهر السلوكية الخارجية للتديّن ولكن الهدف تحقيق مصالح دنيوية، ويتظاهر الشخص في هذا النوع من التديّن بالدين للأهمية والمكانة للدين والمتدينين في نفوس الناس لكسب ثقتهم ومودتهم لتحقيق مصالحه.
- التديّن التفاعلي “تديّن رد الفعل”، ويظهر هذا النوع في الأشخاص الذين لم يسبق أن كانوا متدينين، بل عادة ما يكونون غارقين في حياتهم بعيداً عن مفاهيم الحلال والحرام، ويتغير هذا الشخص نتيجة حادث مفاجئ، وتظهر عنده العاطفة الدينية والحماسة الزائدة للدين، ولكن من دون معرفة أو تعمّق في الدين.
- التديّن الدفاعي “العصابي”، ويظهر هذا التديّن في مواجهة الخوف أو في مواجهة الإحباط أو تأنيب الضمير أو العجز عن مواجهة صعوبة الظروف أو الحياة، ويزداد قوة أو ضعفاً بزيادة أو ضعف العوامل الباعثة عليه، وتتجلى في هروب الشخص من واقعه نحو أداء الشعائر والعبادات.
- التديّن المرضي “الذهاني”، وهذا التديّن هو محاولة لمواجهة حالة التدهور المرضي التي تظهر فيها أعراض المرض العقلي متّشحة بمفاهيم دينية مغلوطة، فمثلاً قد يعتقد البعض أنّه ولي أو نبي أو المهدي المنتظر.
- التطرّف، وهو الغلوّ في الممارسة الدينية بما يخرج عن الحدود المقبولة، ويظهر الغلوّ في جانب معين على حساب جوانب أخرى.
- التصوّف، ويمرّ به الأشخاص الذين لهم تركيب روحي واجتماعي خاص، وقد يمرّ الإنسان بمعاناة شديدة ثم تهدأ صراعاته وتناقضاته فجأة، بما يشبه الولادة من جديد وأنه كُشفت عنه الحجب وتوحّد مع الكون.
- التديّن الأصيل، وهو ما ترتبط فيه المعرفة الدينية العقلية مع العاطفة والسلوك، فالشخص يملك معرفة دينية كافية وعميقة، وقوله متفق مع فعله وظاهره متفق مع باطنه، وهذا التوازن يكسب الشخص الطمأنينة والهدوء.
ومن المؤسف أن التديّن أصبح أيضاً غطاءً لممارسة الرذائل وانتهاك حقوق الناس، فيجد الناس في التديّن مغفرة لهم، فطالما أنّ الانسان يقوم بالعبادات فهناك ما يجبُّها.
إنّ التديّن الذي لا يرتبط بصحيح العقيدة والمتّصل حكماً بالعقل، سيكون أرضية خصبة وحاضنة دافئة للتكفير ومصيدة لكل متصيّد لأبناء الأمة، وحتى لا يكون التديّن وبالاً عليها فلا بد من عقلنة هذا الفعل الإيجابي من الناحية الروحية والنفسية، فلا نستغرب هذا الكم الهائل من الفصائل التي أخذت الطابع الديني في سورية، لأنها وجدت من باب التديّن أسهل الطرق للولوج إلى النسيج الوطني، والناس بفعل عاطفتها الدينية التي يقع أغلبها في مراتب أبعد ما تكون عن المعرفة والعقل وأقرب ما تكون إلى السذاجة والحماسة، لذا فإن موضوع التديّن من الخطورة بما لا يجب أن يُترَك لأهواء العابثين يتلاطمها الناس دونما وعي.
شخصية العدد:
جولة في حياة المفكر والمناضل القومي العربي ياسين الحافظ وفكره
نسرين الصغير
وُلد ياسين الحافظ عام 1930م في أسرة متوسطة الحال في مدينة دير الزور السورية الواقعة على نهر الفرات، وكان والده حكمت الحافظ يفخر بعروبته وإسلامه وكان يعرّف عن نفسه بأنه عربي مسلم سوري، وكانت والدته أرمنية مسيحية من الذين نجوا من مذبحة عام 1915. تلقّى تعليمه الأول في كُتّاب الشيخ ملا غفور، ثم في مدرسة السريان الأرثوذكس، وانتقل بعدها لمدرسة هنانو ونال شهادته الإبتدائية، ومن ثم انتقل إلى مدرسة تجهيز الفرات والتي لا تزال قائمة حتى يومنا هذا، وفي هذه المدرسة كانت الانطلاقة لميوله واهتمامه في السياسة من خلال مشاركته في التظاهرات وفي جريدة الحائط المدرسية، وظهر وقتها شغفه بالمطالعة.
توفيت والدته وهي تبلغ من العمر خمسة وثلاثين عاماً ما جعله يترك دراسته، وتوفي والده بعد إصابته بمرض السل. وعاد بعدها بفترة لينتظم على مقاعد الدراسة ولينال شهادته الثانوية في مدينة الميادين بمحافظة دير الزور، وليلتحق بكلية الحقوق في الجامعة السورية بدمشق، وأكمل دراسته الجامعية وهو مرشح ضابط في الجيش العربي السوري. آثر الحافظ أن يؤدي الخدمة الإلزامية، وبعد أن أنهاها وأنهى دراسته الجامعية، عمل محامياً في مكتب الشيخ عطية في دير الزور. ترك مهنة المحاماة لعدم حبه لها والتحق في العمل موظفاً بوزارة الشؤون الاجتماعية بعد انتقاله لدمشق، وهناك تزوّج من الفتاة الدمشقية سلوى الحموي وأنجب منها ولداً وبنتين. توفي الحافظ عام 1978 عن عمر ناهز الثمانية والأربعون عاماً بعد أن أصيب بمرض السرطان في بيروت، ودفن في دمشق-سورية.
اعتقل الحافظ مرة واحدة في حياته القصيرة التي عاشها بين سورية ولبنان، مع فترة قصيرة في فرنسا، وكان اعتقاله في سورية لمدة عام واحد وكان الحكيم جورج حبش الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين جاره في الزنزانة، وبعد أن اطلق سراحه غادر إلى بيروت عام 1968.
انتسب مبكراً إلى حزب البعث العربي الاشتراكي ولم يمكث فيه طويلاً حتى انسحب منه، ثم عاد وانتسب إليه ولينسحب مرة أخرى، وهذا لا يمنع أن نشير إلى أن ياسين الحافظ كان له دورٌ متميز في حزب البعث الاشتراكي، فبعد 8 آذار 1963 وتسلم حزب البعث العربي الاشتراكي الحكم في سورية، كُلّف الحافظ بكتابة “بعض المنطلقات النظرية لحزب البعث” والتي تعتبر الوثيقة الثانية من حيث أهميتها كمرجعية نظرية لحزب البعث، وتعرّف بعدها بإلياس مرقص الذي كان يؤدي الخدمة الإلزامية ضابطاً مجنداً بحلب، وكان عضواً في الحزب الشيوعي وهنا بدأ الحافظ بالتعرّف على الفكر الشيوعي وانتسب لحزب عام 1955، ولم يمكث فيه طويلاً حتى قدّم استقالته، لكن لم يعنِ خروج الحافظ من حزب البعث الاشتراكي والحزب الشيوعي انسلاخه عن القومية العربية لا بل حاول تطوير ذاته في دمج الفكر القومي العربي مع التجربة الماركسية، وكانت معظم مؤلفاته تحثّ على الوحدة العربية على أنها مُخلِّص الأمة من الجهل والفقر والتجزئة، ولكن مع تبنّي الفكر الماركسي والتجربة الشيوعية مع اختلاف العدو والبيئة الحاضنة.
كان الحافظ من الذين ينفون ويعترضون على الحديث عن مصطلح العالم العربي، فمن وجهة نظره، “العالم” يعني اختلاف اللغة والتاريخ والحضارة، وأن في وطننا العربي ما يسهل علينا الوحدة، فرغم تعدد الديانات والطوائف والأقليات إلا أنّ الوطن العربي يجمع أبناءه انتماءٌ واحدٌ لوطنٍ واحد ولغة واحدة وتاريخ وعدو واحد، وأينما قرأت الحافظ ستقرأ في كتاباته عن موضوعة الوحدة العربية، فهي لم تكن مجرد اهتمامٍ آخر مع غيره، بل كانت موضوعه الأساسي مهما اختلفت الزوايا التي تناولها من خلالها، ولذلك فإنه لم يكن بحاجة لمناسبة خاصة ليتطرق إليها، بل تخللت فكره وكتاباته وعمله السياسي من البداية حتى النهاية.
بالمحصلة، يمكن وصف ياسين الحافظ بأنه مناضل ومفكر قومي عربي، عاش حياة قصيرة لكنها غنية فكرياً وسياسياً، وقد كتب عنه المناضل والمفكر القومي ناجي علوش في كتابه “الحركة القومية في مائة عام” مادة بعنوان “الوحدة في فكر ياسين الحافظ” قال فيها: “وياسين بالإضافة إلى هذا وذاك، مناضل ومنظر قومي، يمثل مدرسة في الفكر القومي، حاولت أن تتجاوز المدارس القومية التقليدية والرومانسية، وأن تتخطى اليسار الماركسي، الذي تبنّى أممية لاترى الحدود القومية، وقطرية تتجاهل الوجود القومي. وهذا ما تبرزه كتابات الحافظ كلها، ورغم ذلك، فإننا لا نلمس اهتماماً بتراثه عند الدارسين”. ويذكر أن ناجي علوش تعرّف على ياسين الحافظ وإلياس مرقص خلال عمله مديراً للنشر في دار الطليعة في بيروت، وقد لعب دوراً في نشر كتبهما وتعميمها عربياً.
تبلور وعي ياسين الحافظ السياسي والاجتماعي في مراحل مدّ وجزرالحركة القومية العربية، فشهد فيها حرب فلسطين عام 1948 وحاول المشاركة فيها عندما كان ابن الثامنة عشر فاشترى مسدساً وذهب إلى بيروت ومن ثم إلى الجنوب اللبناني إلى بنت جبيل ومن ثم صفد إلى أن وصل إلى المعسكر الذي كان فيه أستاذه عبد الكريم زهور، الذي رفض مشاركته لصغر سنه. وكان شاهداً على ثورة مصر تموز 1952، والثورة الجزائرية عام 1954، والعدوان الثلاثي 1956، كما شهد الوحدة المصرية-السورية عام 1958، وثورة تموز في العراق عام 1958، وحرب عام 1967، واتفاقيتي كامب وديفيدعام 1977-1978، وكان لكل هذه الأحداث أثر في نفس ياسين الحافظ وفي تكوين فكره القومي العربي.
ففي تحليله لتجربة الوحدة المصرية-السورية بين عامي 1958-1961، يذكر ياسين الحافظ أن الوحدة جاءت، من الناحية الجغرافية السياسية، نتيجة مشروع حصار سورية في الخمسينيات، وكضرورة راهنة للاستقلال عن قوى الهيمنة الخارجية، وبراثن التبعية. فقد كانت الإمبريالية البريطانية عام 1955 قد استكملت تأسيس ما يسمى بـ”حلف بغداد”، – وهو ما يعادل اليوم “حلف المعتدلين العرب” في الخمسينيات، باستثناء أنه كان “حلف المعتدلين المسلمين” وقتها- الذي ضمّ في عضويته بريطانيا والباكستان وتركيا وإيران والعراق، كجزء من استراتيجية احتواء حركات التحرر الصاعدة في الوطن العربي، وكان ذلك الحلف الموالي للاستعمار يزحف غرباً، ويحيق بمصر من خلال سورية، ومنها محاولتا انقلاب في سورية مدعومتان من حلف بغداد في عام 1956 وحده، إحداها كان يفترض أن تترافق مع العدوان الثلاثي في العام نفسه.
ويضيف الحافظ في تقييمه، الذي نُشر في كتابه “حول المسألة القومية الديموقراطية”:
“كانت مصر، التي وقّعت مع إنكلترا اتفاقية الجلاء في تشرين أول 1954، قد رفضت رفضاً قاطعاً الدخول في أحلاف مع الدول الغربية. لذا اتجه حلف بغداد، في محاولة لعزل مصر وإجبارها بالتالي على القبول بالدخول في عضويته، إلى تكثيف مؤامراته وضغوطه على سورية للسيطرة عليها وإدخالها في الحلف! وعندما أدركت مصر هذه الواقعة بادرت إلى هجوم معاكس كان بداية انفجار أكبر وأعظم المعارك السياسية والعسكرية التي شهدها الوطن العربي، منذ الاجتياح الاستعماري”. فالوحدة المصرية-السورية جاءت لتعبر لا عن مثال أعلى قد نسعى إليه “لأنه أفضل”، بل انبثقت الحاجة للوحدة من ثنايا الصراع مع الاستعمار، وضرورة الحفاظ على الاستقلال.
إلا أنّ مرحلة ما بين عامي 1971-1978 رغم قصرها، إلا أنها كانت الأكثر خصوبةً على الصعيدين الفكري والسياسي كتب ياسين الحافظ خلالها أعماله الأكثر أهمية وذلك بعد النكسات التي شهدها بعد وفاة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وزيارة أنور السادات للقدس المحتلة بعد نصر تشرين ومحاولة السادات تصفية الفكر القومي العربي والناصري الذي كان يدّعي وراثته، وخروج جزء من الجماهير التي ودّعت الرئيس القومي العربي جمال عبد الناصر لاستقبال نيكسون رئيس أكبر دولة عدوة للقطر المصري، الولايات المتحدة الأمريكية.
ومع ذلك، نرى في مقالة لياسين الحافظ نُشرت بصحيفة النهار فى 1 أكتوبر/ تشرين أول 1971، تحت عنوان “لا خوف من المستقبل على الرغم من الانهيار الكبير”، أن نحصل على تقييم موضوعي للتجربة الناصرية بحسب ياسين الحافظ، فهو يرى أن “عبد الناصر كان رجل فعل ولم يكن مُنظّراً، أي أن عبد الناصر كان تجريبياً. لكن تجريبيته هذه، بسبب الطابع التاريخي لشخصية عبد الناصر وارتباطه العميق بالشعب، كانت تنمو إلى وعي مطابق، إلى “ماركسية موضوعية”، وهذه التجريبية بالذات كانت أعلى بكثير من الفكر القومي المثالي، وبهذا وحده يمكننا تفسير تفوّق عبد الناصر على بقية أطر اليسار، ومن هنا فإن التراث الثوري العربي الوحيد، العظيم والقاصر في الوقت نفسه، هو تراث عبد الناصر”.
ويعزو ياسين الحافظ قصور الأحزاب الشيوعية العربية إلى أنها لم تستطع أن تلتقط المسألة المركزية في الثورة العربية، وهي بالطبع مسألة الوحدة العربية. فكرّاس ستالين “الماركسية والمسألة القومية”، حجب عنهم الحقيقة الواقعية لوحدة الأمة العربية وكونها تشكل أمة واحدة، وضللهم عن رؤية الطابع الشعبي والجماهيري (والفلاحي) لحركة القومية العربية. أما كتاب لينين “الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية”، والذي كان موجهاً -في الدرجة الأولى- إلى فهم الجانب الاقتصادي في الرأسمالية الاحتكارية، فقد حجب عنهم- بفهمهم المبسّط له بالطبع- الجانب السياسي في آلية الهيمنة الإمبريالية في المستعمرات، فعجزوا بالتالي عن إدراك الجانب المعادي، موضوعياً، للإمبريالية، في النضال الوحدوي. لذلك نستطيع أن ندرك لماذا كانت الأحزاب الشيوعية العربية مجرد قوة ضغط ودفع في أحسن الأحوال، ولم تكن قط قوة تغيير.
وفي جزء آخر من تحليله يرى ياسين الحافظ، أنّ عبد الناصر لم يكن قومياً عادياً تقليدياً، بل كان قومياً متطرفاً. فعندما كانت الحركة الوطنية المصرية في مجملها، بما فيها اليسار الأكثر عداء للإمبريالية، سجينة أفق إقليمي مصري، أدرك عبد الناصر أن استقلال مصر السياسي الحقيقي الكامل لن يتحقق بالقضاء على النفوذ الاستعماري في مصر، بل لا بد من تصفية هذا النفوذ في الوطن العربي. انطلاقاً من هذه النقطة بالذات نَمَت بذرة الاتجاه العربي الوحدوي لدى عبد الناصر، ليضيف أن عبد الناصر تعامل معها كعملية تاريخية، تتحقق مع النهضة العربية وبها، وهي على كل حال أرضية لا بد منها للاستقلال التام.
وعند وفاة عبد الناصر يرى ياسين الحافظ أنه على صعيد الدول الغربية، كان غياب عبد الناصر فرصة كبيرة لهذه الدول لكي تجهز على كل المكاسب التي حققتها الأمة العربية بقيادة عبد الناصر. علماً أن لحظة الانهيار الكبير، التي خطط الاستعمار لتحقيقها كانت في حرب حزيران/ يونيو 1967 وفشلت بسبب موقف الجماهير في 9 و10 حزيران/ يونيو 1967.
ويطرح ياسين الحافظ سؤالاً يؤول به إلى استنتاجات مهمة لتقييم التجربة الناصرية، فهل هناك ناصرية بلا جمال عبدالناصر؟
يبدأ الحافظ باستنتاج مهم، وهو أن الناصرية ليست شيئاً آخر سوى الحركة القومية العربية، المتحولة إلى حركة اشتراكية، في نضالها التاريخي الطويل في سبيل النهضة العربية والوحدة العربية. ومن هنا، فإنّ مستقبل الحركة الناصرية هو مستقبل الحركة القومية العربية بالذات، ومن هنا أيضاً يصل الحافظ إلىى أن ثمة ناصرية من دون ناصر وبعد ناصر.
وبصرف النظر عن الاسم والإطار اللذيْن ستأخذهما حركة الجماهير النامية في المستقبل، فإن التراث والتقليد الناصريين لا بد وأن يشكلا مرتكزاً أساسياً من مرتكزات هذه الحركة. إن حركة الجماهير الجديدة، عندما تكون حركة جماهير فعلية، لا يمكنها إلا أن تنطلق من النقطة التي وصل إليها عبد الناصر، مستوعبة كل الإرث الناصري، لتتجاوزه إلى وعي يناسب ويرتفع إلى مستوى المرحلة التي تعيشها. إنّ المنطلق القومي لمسيرة عبد الناصر، هو جَعْل الحركة الناصرية حركة شعب عريضة. لقد بدأت الثورة العربية الحديثة مع عبدالناصر، بحسب الحافظ، إكمالها سينطلق من النقطة التي وصل إليها.
امتازت مؤلفات الحافظ بسعيها إلى إعادة ربط القومية العربية بالفكر الماركسي المعرّب والذي كان يعني فيه ملاءمة النهج الماركسي مع ما يناسب البيئة العربية واعتبر أن ما يحدد الماركسية في الوطن العربي هو المجتمع العربي ذاته وهمومه.
كان الحافظ يحاول أن يجسد منذ بداية التراجع القومي إرادة التحدي القومي الديموقراطي وطرح ضرورة هذا التحدي، ولذلك فإن ياسين كان يجذف في مواجهة التيار الجارف، وكان يرى: “أن سياسة القومية الحديثة، هي وحدها التي يمكن أن تنجز عملاً تاريخياً ينقض أو يوقف هذه السيرورة التقهقرية الانحدارية التي انخرط فيها المعظم، إن لم نقل كل الشعب العربي ليقلبها في اتجاه تقدمي صاعد”.
كان يضع يده دائماً على أسباب ومشاكل التأخر العربي التي اعتبر أن جزءاً منها هو “الرواسب أو البنى ما قبل القومية، كالعشائرية والطائفية والقبلية والعائلية، وهي رواسب عرقلت اندماج الأمة القومي”، كما احتفظت بقوتها بفضل طبيعة “الكتلة الرئيسية من الإنتلجنسيا العربية” التي حكم عليها بأنها “محافظة أو بالأحرى لا تملك وعيا مطابقاً لحاجات تغيير الواقع العربي باتجاه المعاصرة”.
كان ياسين الحافظ يؤمن بفصل الدولة عن الدين وهذا الفرق بينه وبين المفكر القومي العربي ساطع الحصري الذي كتبنا عنه سابقاً الذي كان يربط الدين بالدولة.
اعتبر الحافظ أن الوحدة هي الشرط الأولي للبقاء والتحرر العربي وشرط أولي للتقدم العربي، ووضّح الحافظ في كتاباته أسباب فشل المسيرة الوحدوية وبيّن طريق النجاح لها، واعتبر أن هناك عوامل نابذة وأخرى جاذبة للوحدة ومن أهم العوامل النابذة:
- أن التأخر العربي هو العامل الأول، ويتجلى التأخر
- أولاً سياسياً في إلغاء دور الشعب،
- ثانياً \ايديولوجياً في كون الوعي العربي وعياً مفتتاً وقاصراً عن متطلبات التقدم العربي، ويتجلى
- ثالثاً اقتصادياً في كون الاقتصاد العربي متأخراً وتابعاً للاقتصاد الإمبريالي ولم يَرَ تطور اقتصادي عربي رغم مداخيل النفط العربي..
- العامل الثاني هو الهيمنة الإمبريالية، وهذه الهيمنة تحاول ممارسة ضرب الاحتمالات الوحدوية السياسية.
- وواقع التجزئة والمقاومة التي يبديها وهو العامل الثالث.
- أما العامل الرابع فهو الأيدولوجيات الضمنية أو الصريحة للأقليات الدينية والقومية في الوطن العربي.
واعتبر أن العوامل الجاذبة للوحدة هي:
- شعور البشر المنتشرين من الخليج إلى المحيط، بأنهم ينتمون إلى أمة واحدة يجمعهم مصير مشترك.
- مفاعيل الهيمنة الإمبريالية، وضغوطها ونهبها للشعب العربي، فضلاً عن زحوف أو تهديدات عدد من الدول القائمة على أطراف الوطن العربي وفي قلبهوكان يشير دائماً إلى تركيا والكيان الصهيوني.
- النزوع العربي إلى التقدم، إلى دخول العصر، إلى تأكيد الذات.
كان ياسين الحافظ يعتبر أن من أهم عوامل تقدم المدّ القومي الحفاظ على اللغة العربية الفصحى وأكّد هذا عندما قال ” فما من أمة تقدّمت أو تريد أن تتقدم إلا كان لها تعاملٌ مع لغتها بدلالة الحاضر والمستقبل بدلالة الماضي، وقال في هذا الصدد: “لا شك في أن تطوير اللغة العربية والكتابة العربية لتكون القناة الكافية والملائمة لاستيعاب الثقافة الحديثة والتقنية الحديثة استيعاباً كاملاً إنما يشكّل مسبقة النهضة الحقيقية”.
وعندما نتحدث عن ياسين الحافظ واللغة العربية لا يمكننا أن ننسى أنه كانت له بصمة في ميدان التثقيف السياسي والتنظير وكان متمرساً وعميقاً في لغته الأم، وما يميّزه عن غيره من المؤرخين والمنظّرين العرب انتقاءه للمصطلحات العربية المميزة في كتاباته مثل “الشخبوطبة الذليلة”.
يدعو ياسين الحافظ إلى سياسة تغيير راديكالية، وتقوم هذه السياسة على ثلاثة أركان رئيسية وهي:
- الأمة وروح المواطنة واشتق هذا المصطلح من الأموية، أي القومية، ليعبر عن هذا المفهوم.
- بناء الديموقراطية.
- الوعي المطابق، أي أن “تملّك هذه السياسات الوعي المناسب لحاجات تقدّم الأمة العربية وتحررها ووحدتها” وهذا الوعي هو “وعيّ كونيّ، في المستوى الأول، وفي المستوى الثاني وعي حديث، وفي المستوى الثالث هو الوعي التاريخي”.
وفي الوقت الذي عادى فيه الحافظ الإمبريالية وثقافتها، لم يَخَف الغرب، وأعلن عن علاقة حميمة مع الثقافة العلمية الثورية الديموقراطية، وعلى هذه الأسس بنى الحافظ مشروعه القومي وهندس مشروع الوحدة، وكان يرى دائماً أنه مشروع سياسي، وأن السياسة هي الأساس وليس الاقتصاد أو الثقافة أو غير ذلك، ولذلك كثيراً ما شددّ على الأولوية السياسية.
من أهم مؤلفات ياسين الحافظ:
- حول بعض قضايا الثورة العربية – 1965.
- اللاعقلانية في السياسة العربية: نقد السياسات العربية في المرحلة ما بعد الناصرية – 1975.
- التجربة التاريخية الفيتنامية: تقييم نقدي مقارن مع التجربة التاريخية العربية – 1976.
- الهزيمة والأيدولوجيا المهزومة – 1978.
- في المسألة القومية الديمقراطية –نشر بعد وفاته.
ورغم محاولات بعض الليبراليين الانتهازين بعد الأزمة السورية تجيير موقف المناضل القومي العربي ياسين الحافظ من حزب البعث الاشتراكي، باقتطاع جزء من حياته على أنه كان معادياً للتجربة البعثية بعد الاستقالة من الحزب، والشيوعية أيضاً بعد تركها، إلا أن إرث ياسين الحافظ يأبى إلا أن يبقى شوكة في قلب كل من يعادي الفكر القومي العربي المناهض للإمبريالية والتبعية بإعتباره الوطن العربي ووحدته خط أحمر.
ستبقى سورية رغم كل ما حلّ بها من احتلال عثماني وانتداب فرنسي وحرب كونية تحت مسمى “الربيع العربي” مصدر القومية العربية ومنبعها وأرض خصبة للدعوة للوحدة العربية وستبقى بمفكريها و سياسيها وقائدها بشار الأسد كما وصفها الرئيس الراحل القومي العربي جمال عبد الناصر قلب العروبة النابض.
من المراجع أيضاً:
- الحركة القومية في مائة عام- ناجي علوش- الفصل الثالث: الوحدة في فكر ياسين الحافظ
- مشروعنا، نحو حركة جديدة للنهوض القومي – د. إبراهيم علوش – الفصل الثاني: نحو برنامج قومي للقرن الواحد والعشرين. دار ورد 2008.
- أسس الفكر القومي العربي – د. إبراهيم علوش – الجزء الثامن: ياسين الحافظ ينظر لتجربة عبدالناصر كقومي يساري موضوعياً. دار فضاءات 2012.
الإمبريالية الإعلامية وتركيبة خطابها
إبراهيم حرشاوي
يمكن اعتبار الإمبريالية الإعلامية وجهاً من الوجوه البارزة للهيمنة التي تخضع لها الكثير من الدول العربية والعالم ثالثية في المجالات الثقافية والاجتماعية والإعلامية، لذا قد يتضح مفهوم الإمبريالية الإعلامية أكثر عبر تعريف الهيمنة الثقافية. ويُربَط مفهوم الهيمنة الثقافية في كل قواميس الفلسفة المعاصرة بالمفكر الإيطالي ذي الأصل الألباني أنطونيو غرامشي الذي حاول كشف وتحليل أسباب التعايش الطبقي في الكثير من البلدان برغم وجود تناقضات حادة على المستوى المادي. وقد أوضَحَ غرامشي بأنّ الهيمنة الثقافية المتمثّلة في القيم الاجتماعية والثقافية المُكتنزة في الخطاب السائد تعَدّ من الأسباب الرئيسية في تكريس الوضع القائم بغض النظر عن مدى تواجد شرخ مادي-طبقي واسع بين القوة المُهيمِنة والمُهيمَن عليهم.
أما الترجمة الإعلامية لأطروحة غرامشي فقامَ بها المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي من خلال إصدار كتاب تحت عنوان “صناعة الإذعان”: عن الإعلام والبروباغندا في الأنظمة الديمقراطية”. فكتاب تشومسكي -الذي شاركه في كتابته الأستاذ الجامعي الأمريكي إدوارد هيرمان-يوفّر للقارئ تفسيراً دقيقاً لعملية صناعة الرأي العام من طرف الشركات الإعلامية العملاقة التي تحتكر التقانة الإعلامية وآليات التوزيع والتسويق. ويطرح الكاتبان صيرورةً مفادها أنّ المعلومة الإعلامية تمرّ عبر خمس مصافٍ قبل أن يتمّ إيصالها إلى المتلقّي. وقد تمّ إطلاق مفهوم ” نموذج البروباغندا” على هذه العملية. تعتبر الشركات الإعلامية العملاقة بحسب هذا النموذج شركات تجارية تسعى فقط إلى رفع عائداتها وليس إلى نقل الأخبار بشكل نزيه وموضوعي ونقدي، وتكون المصلحة المادية بالتالي هي التي تقرر نشر خبر معين من عدم نشره، وليس قيمته الذاتية. كما أنّ المُنافسة الحرّة–بحسب هذا النموذج-سوف تُقصي الشركات الصغيرة التي تسعى إلى صناعة إعلام بديل بسبب تفوّق الشركات الإعلامية العملاقة مادياً وتقنياً مما يعني أنّ طبيعة الإعلام سيكون متجانساً وممثّلاً لمصلحة القوى المتحكِّمة. ويضيف الكاتبان بأنّ الأخبار والمعلومات بحدّ ذاتها لا تجلب العائدات مما يجعل الشركات الإعلامية تضطر إلى نشر الدعايات والخضوع لتوجّهات أصحابها التي غالباً ما تكون ترويجاً لقيّم الليبرالية والرأسمالية. كما أضاف الكاتبان بأنّ التركيز على مؤسسات رسمية كمصادر للأخبار تكون هي الوسيلة المعتمدة من طرف وسائل الإعلام هذه، بحيث يتمّ توزيع المراسلين على مؤسسات حكومية للولايات المتحدة الأمريكية أو مؤسسات الاتحاد الأوروبي وما شابهها من مؤسسات مركزية في المنظومة الغربية، مما يجعل الإعلام الغربي يعكس خطاب الشريحة الحاكمة ولا صوت يعلو فوقها. كما يوضّح الكاتبان أيضاً في هذا النموذج إمكانية تعرّض أي شخص أو مجموعة للتشهير المنظّم في حالة معارضة الوضع القائم أوالمتحكّمين في هذه المنظومة، وخير مثال على ذلك اعتماد وسائل الإعلام الغربية مبدأ مناهضة الشيوعية التي كانت في تلك الحقبة مستهدفة في ظل الحرب الباردة. وبرغم أن الكاتبين اختزلا الخطاب الذي يتعرّض للتهميش في وسائل الإعلام الغربية في الشيوعية إلا أنّه في الأمر الواقع يستهدف كل من تسوّل له نفسه معارضة “الوضع القائم” بصرف النظر عن توجهه الأيديولوجي. زيادةً على ذلك، لم يتطرّق الكاتبان للتغلغل الصهيوني على مستوى رأس المال والكوادر في المنظومة الإعلامية الغربية عامة والأمريكية خاصة، وهي نقطة تسجل عليهما بجدارة، بمقدار ما يسعيان كيهوديين للظهور بمظهر علماني ويساري ناقد للنظام.
لكن النموذج الذي وضعاه قد يساعد في التعامل بشكل نقدي مع الخطاب الإعلامي الذي يتلقّاه المشاهد العربي والعالمي في آنٍ واحد، كما أنه قد يُساعد في تفكيك بنْية خطاب المؤسسات الإعلامية الغربية الناطقة باللغة العربية الذي يتقمّص المِهنية والموضوعية بينما إذا أخضعناه للتشريح النقدي سيتمّ كشف انحياز مصادره ومصطلحاته ومفاهيمه وأولوياته لمصلحة القوى السياسة والاقتصادية التي تقف وراءه. فالإعلام الغربيّ الناطق باللغة العربية، ورديفه المتمثّل في الإعلام البترو-دولاري، يتقمّص هذا الدور المهني عبر عدم استخدام اللغة التعبوية التي يعتبرها المتغرّبون العرب “لغة خشبية” تنتمي إلى “زمن الخمسينيات والستينيات”. وهو الأمر الذي يلقى رواجاً عند شريحة كبيرة في الوطن العربي، إذ يرى المشاهد العربي في هذا الخطاب نوعاً من الرصانة والهدوء المفقود مقارنةً بالإعلام المحلي والممانع. والأخطر من ذلك أنّ هذا الإعلام يزعم احترام كل الآراء والتوجّهات، كما يزعم توفير نفس المساحة لهم، لكن في الواقع تكون نسبة تمثيل الآراء المُعارضة ضئيلة، كما يتم عرضها وتأطيرها بشكل مشوّه لكي تترك في نهاية المطاف انطباعاً سلبياً لدى المتلقّي.
ومن المفيد أن يُشار في هذا الصدد إلى سلسلة التقارير التحليلية التي نشرتها لائحة القومي العربي على موقعها فيما يخص تغطية القنوات الغربية الناطقة باللغة العربية للأزمة السورية. فقد تمّت ملاحظة وجود خروقات عديدة لمواثيق الصحافة كميثاق شرف الإعلام العربي وميثاق شرف الفيدرالية الدولية للصحفيين. فقد شملت الخروقات مستويات عديدة كالمصطلحات المستخدمة ودقة المعلومات ومصادر الأخبار. فمثلاً يتمّ الاعتماد على أرقام ومعطيات ما يسمى بـ”المرصد السوري لحقوق الإنسان” المدعوم بريطانياً والمعادي للدولة السورية، أو تنسَب المعلومات أحياناً إلى مصادر مجهولة الهوية كـ”نشطاء ميدانيين” وما شابه. أما على مستوى المصطلحات فيُطلق على مؤسسات سورية رسمية تسميات مشوّهة، وعلى رأسها المؤسسة العسكرية التي توصف بمصطلحات منحازة لخطاب الجماعات المسلحة كـ”القوات الحكومية” أو “جيش الأسد”. ويُلاحَظ أيضاً التجاهل المتعمَّد للجرائم التي ترتكبها تلك الجماعات ضد الأحياء السكنية والمناطق التي تسيطرعليها الدولة السورية، فتارةً يتم التكتّم على هذه الجرائم وتارة أخرى تُبرر من خلال تمريرها كرد فعل مشروع على “غارات النظام”!
كل ما سبق يفرض علينا ضرورة إيجاد مرجعية للأمن الإعلامي العربي الذي هو في جوهره جزء أساسي من الأمن الثقافي العربي. وقد تكمن المرجعية لبلورة أمن إعلامي عربي فيما حصل في سبعينيات القرن الماضي-وهي المرحلة التي نشأ فيها مفهوم “الإمبريالية الإعلامية”-كردّ فعل من طرف بعض دول العالم الثالث بزعامة الهند ومصر وإندونيسيا على احتكار الشركات الإعلامية الغربية للأخبار والإعلام العالمي. وقد اندلع هذا النقاش في ظلّ حركة “النظام العالمي الجديد والاتصال” في منظمة اليونيسكو حيث سطَعَ نجم الوزير الإعلامي التونسي د. مصطفى المصمودي الذي كان دوره محورياً في مناقشات الإشكاليات الإعلامية الدولية وقتها، وقد تمّ إصدار تقريرمن لجنة تشكّلت ساعتها معروفة باسم “تقرير ماك برايد” نسبةً لاسم رئيس اللجنة “شان ماكبرايد” الذي كان من القيادات الوازنة في الجيش الجمهوري الإيرلندي، إذ اشتغلت هذه اللجنة على التقرير لمدة ثلاث سنوات (1977-1980) لتخرجَ بتحليل وتوصيات لإصلاح الخلل الذي تتصف به المنظومة الإعلامية العالمية. وبرغم مرور أكثر من ثلاثة عقود على صدور هذا التقرير إلا أنّ خطوطه ومبادئه العريضة لا تزال قابلة للتنفيذ، وهي كالآتي: 1) الاتصال عنصر أساسي للاستقلال الثقافي، 2) الفجوة تزداد اتساعاً بين الدول المتقدمة التي تنشر رسالتها بحرية وبين الدول التي ليست لديها مثل تلك الإمكانية، فينتج عن مثل ذلك التفاعل الأحادي آثار سلبية، 3) بما أنّ تبعية البلدان النامية للدول المتقدمة في ازدياد يجب على الدول المتقدمة أن تقدم العون للبلدان الراغبة لتقوية قدرتها في ميدان الاتصال، 4) يجب استبدال الاتصال من جانب واحد ليكون شاملاً من جانبين، 5) يجب أن يساعد الاتصال على الحدّ من الخلل القائم، وذلك من خلال احترام استقلالية وكرامة كافة الشعوب دون المسّ بهويتها. ولقد أدّت مواقف حركة “النظام العالمي الجديد للإعلام والاتصال” إلى انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا من اليونسكو ومقاطعتها.
إنّ مُعضلة المشهد الإعلامي العربي لا تكمن فقط في الدور المهيمِن لوكالات الأنباء الغربية كأسوشييتد بريس أو رويترز أو القنوات الغربية الناطقة باللغة العربية ذات التوجه الاستعماري كفرانس 24 والبي بي سي، بل في محدودية قدرة الإعلام العربي الرسمي التابع للدول ذات النزعة الاستقلالية-التحررية على تطوير أدائه والتصدّي للخطاب الإعلامي الإمبريالي. إنّ المعضلة تكمن أيضاً في الإعلام العربي الممانع والمقاوم بحيث أن مقاربته للواقع العربي لا تنطلق من المصلحة العليا للأمة العربية في بعض الحالات، بل من مصلحة أيديولوجية ضيقة تجعله في كثير من الملفات يأخذ مواقف تساوي مواقف القنوات الإعلامية الغربية. فقد تجد في إحدى القنوات الممانعة تغطية وطنية فيما يخصّ الصراع العربي – الصهيوني، وفي نفس الوقت تجدها تصف المُقاومة الوطنية الليبية مثلاً بـ”أنصار النظام السابق”، والشهيد معمر القذافي بـ”الطاغية”. وقد تجد قناة وطنية وممانعة أخرى تقدم بدورها خطاباً وطنياً إزاء فلسطين لكنها في نفس الوقت لا تختلف عن فرانس 24 أو القناة العاشرة الصهيونية في تغطية الأزمة السورية. فلا جدوى إذن من إنشاء قنوات ممانعة من دون رؤية استراتيجية ترمي نحو مشروع عربي شامل يكون عنوانه التنمية المستقلة. فالتفوق التقاني الغربي يتطلب على الأقل تفوقاً تقانياً مماثلاً لتحصين أي مشروع إعلامي ممانع وبديل، وهو ما حاول الشهيد القذافي أن يحققه من خلال مشروع القمر الصناعي الإفريقي الذي كان سيحقق استقلالاً إعلامياً فعلياً عن الأقمار الأوروبية. فلا يمكن إذن الكلام عن إعلام عربي ذي بعد استراتيجي طالما أنّ الإمبريالية تستطيع من خلال كبسة زر أن تكمّمه. وهذا لا يعني طبعاً أن الإعلام الممانع، برغم نواقصه الكبيرة وتناقضاته الإيديولوجية، لا يلعب دوراً إيجابياً كحلٍ مرحلي. ففي المحصلة يبقى التحدي لمشروعٍ إعلامي عربي مرتبطاً عضوياً بمشروع سياسي عربي يشمل كل الأمة، وطالما أن نقطة الانطلاق لا تكون من هذا الموقع، سيستمر تعرض أبناء هذه الأمة للغزو الإعلامي ولـ”العمليات النفسية” وكل أشكال القوة الناعمة من كل حدب وصوب.
“ويكيليكس” يؤسس منهجاً للإعلام المعاصر
ياسمين بشار
مع استمرار صحيفتي“الأخبار” اللبنانية، و”المصري اليوم” المصرية وعدد من المؤسسات الإعلامية الغربية الأخرى بنشر سلسلة ويكيليكس المثيرة للجدل، بات يُكرَّس يومياً، ومع كل عدد جديد يصدر، مفهوم مختلف للإعلام، فالإعلام بصورته التقليدية المستند أساساً إلى حق الجمهور في المعرفة والخاضع لعدة ضوابط ومبادئ معروفة في صناعة الخبر، بنسب تتفاوت بين مؤسسة وأخرى بطبيعة الحال، والذي استمر على مدى سنوات طويلة وشهد اختراقات معدودة بين الحين والآخر، بات يتغير جذرياً…
أواخر عام 2006، أطلقت منظمة تسمى “سن شاين” الصحفية موقعها على الإنترنت، ادّعت بوجود قاعدة بيانات لأكثر من 1.2 مليون وثيقة خلال سنة من ظهورها، تحولت فيما بعد إلى “ويكيليكس” وهي كما تعرّف نفسها:”منظمة غير ربحية مهمتها الأساسية هي فضح الأنظمة القمعية في آسيا والكتلة السوفياتية السابقة، ودول جنوب الصحراء والشرق الأوسط، لكن نتوقع أيضاً أن تكون هناك مساعدة لأناس حول العالم ممن يرغبون في الكشف عن سلوكيات غير أخلاقية في الحكومات والشركات”، ما يعني ببساطة أن المواطن أو “الجاسوس”، أياً كان، وأياً كانت صفته أو درجة ثقافته، أو أهليته، مدعو أن يصبح “صحفياً”، ومؤهل إلى حد كبير أن يكون مصدراً لخبر سيتصدّر الصحف في اليوم التالي، ويشكّل-كما تأمل- ويكيليكس، جزءاً من “تغيير” يؤثر على سلوكيات “النظام”.
وفي عام 2007، عندما أُطلِقَ الموقعُ رسمياً، كتب يبرر سبب إنشائه: «لكي نغير بشكل راديكالي سلوك النظام، يجب أن نفكر بوضوح وبجرأة، لأنه إذا كنا تعلمنا شيئاً فهو أن الأنظمة لا تريد أن تتغير. يجب أن نفكر أبعد من أولئك الذين سبقونا، واكتشاف تغييرات تكنولوجية تقوينا في طرق التصرف أكثر من الذين سبقونا”. وبعيداً عن الدخول في مدى مصداقية هذه “البيانات”، التي عبّر عنها الكاتب د. عبد الرحمن الحبيب في مقالة بجريدة الجزيرة: “من يدّعي أن وثائق ويكيليكس بلا مصداقية لن يصدّقه أحد، لكن لا أحد يدّعي أن مصداقية الوثائق هي في دقة التوثيق العلمي أو في مستوى قرار محكمة، فهي عبارة عن تسريبات لوثائق تتراوح مصداقيتها من مستوى وجهة نظر جاسوس أو دبلوماسي متواضع القدرات إلى وثيقة دقيقة تتضمن وقائع عالية المصداقية، وما بين هذين المستويين تتفاوت درجة المصداقية بين الاحتمال وشبة التأكيد. فهناك وثائق مجتزأة من سياقها، وهناك وثائق وقعت في التضليل دون علم كاتبها أو ناقلها” خاصة إذا ما علمنا أنّ هذا الموقع كان إلى مرحلة قريبة، مفتوحاً لمشاركات وتعليقات “الجميع”، باختصار، هو الإعلام التشاركي أو الشعبوي كما عبر عنه الكاتب، وبعيداً عن مدى صدقه، أو ارتباطه أساساً بمجال الصحافة، فإنّ النمط الذي أسسته هذه الظاهرة هو مثار البحث هنا، إذ غالباً ما يتم الخلط بين هذا النوع من التسريبات، والذي هو أقرب ما يكون إلى العمل الجاسوسي منه إلى العمل الصحفي أو الإعلامي، أو الصحافة الاستقصائية.
أما الصحافة الاستقصائية، فهي ما يعرّفه رئيس المركز الدولي للصحفيين <ديفيد نابل>: أنها “سلوك منهجي ومؤسساتي صرف، يعتمد على البحث والتدقيق والاستقصاء حرصاً على الموضوعيـة والدقة وللتأكد من صحة الخبر وما قد يخفيه انطلاقاً من مبدأ الشفافية ومحاربـة الفساد، والتزاماً بدور الصحافة ككلب حراسة على السلوك الحكومي”، فصحافة التقصّي ليست صحافة التسريبات، واستلام أحد الملفات من أحد المصادر الرسمية ذي النفوذ ثم إعادة كتابته ونشره في اليوم ذاته لا يقع في خانة الصحافة الاستقصائية، كما أنّ مجرد استخدام الفيديو أو أجهزة التسجيل بشكل سرّي لا يجعل من التقرير تحقيقاً استقصائياً، إذن نحن هنا أمام لعبة جاسوسية، استخبارية، واضحة، لا علاقة لها بحقل الصحافة، إنما تقحم نفسها وتفرض قواعدها على العمل الصحفي، الذي سيكون مجبراً على الاختيار، بين الأخذ بصحة هذا العدد الهائل من ملايين “الأخبار” إن أمكن تسميتها كذلك، أو بالأحرى مستندات لا دليل على صحّتها إلا أنها خضعت لتحليل، خمسة مسؤولين في الموقع مجهولي الهوية، مخّتصين بالبرمجة والتحليل، أو ثمانية كما يُقال في أحيان أخرى، على أن لرئيس هذا الموقع، وحده، الأسترالي جوليان أسانج، القرار النهائي حول تقييم الوثيقة، وفيما إذا كانت قابلة للنشر أو لا، أو اختيار الابتعاد عن الدخول في هذه اللعبة.
اللافت هنا، إذا أخذنا المؤسسات الإعلامية العربية كمثال، سواء منها المكتوبة أم المرئية، أن عدداً قليلاً جداً منها، كان مشاركاً لموقع ويكيليكس، في نشر مستنداته وتمويله، باعتبار أنه قائم أساساً على التبرعات العامة، ونعني هنا أنه مشارك بشكل رسمي، كصحيفة “الأخبار” التي خصصت زاوية خاصة لويكيليكس، تختار فيها بالطبع مواضيع التسريبات التي ستنشرها، فنراها تنشر تسريبات خاصة بالسعودية، البحرين، لبنان، سورية، ومواضيع أخرى يفترض أنها تهمّ المتلقّي العربي، وصحيفة “المصري اليوم”، التي اختارت نشرها أيضاً. في حين قررت المؤسسات الإعلامية الأخرى، أن تنتقيَ ما يناسب توجهاتها ومصالحها وحسب التوقيت المناسب لكل منها من هذا الكم الهائل والمتدفق لمعلومات تتضارب في أحيان كثيرة، أو، وهنا تكمن المشكلة الأكبر، أن تتحول هذه المؤسسات إلى “ويكيليكسات” متعددة ومنفصلة، خارقة لكل قوانين العمل الصحفي، حتى أبسط قواعد الخبر المفروض استناده لمصادر موثوقة، وما يقتضيه من مسؤولية مهنية، وما وراءها من مسؤولية وطنية، أو قومية، أو أخلاقية توجب النشر أو تمنعه.
النموذج الذي أسسته ويكيليكس، القائم على سياسة تجهيل المصدر، والسياسة الفضائحية في صناعة الخبر، تخطّى ما يمكن أن يُسمى “صرعة” سرعان ما تخبو أو تختفي، إنما أضحى السياسة الصحفية المتّبعة، ومدرسة تُحتذى لدى أعداد لا تحصى من العاملين في هذا المجال، ولم يكن غريباً أبداً أن كبرى المؤسسات الأجنبية والعربية، والناطقة بالعربية أيضاً شهدت انهياراً مدوياً لسمعتها، وسقوطاً أخلاقياً خاصة في تغطيتها لما سمي زوراً “الربيع العربي”، فالحروب التي اجتاحت الوطن العربي، باسم الثورات من اليمن إلى ليبيا، إلى سورية، كانت الميدان الأول لتطبيق هذه السياسة الإعلامية، والميدان الأول لسقوط الإمبراطوريات الإعلامية الكبرى في نفس الوقت.
“رويترز، بي بي سي عربي، فرانس 24، سكاي نيوز، الجزيرة، العربية، المستقبل، الجديد…”، وغيرها المئات من الوسائل الإعلامية والمواقع التي تحفل يومياً بعشرات الأخبار غير المستندة إلى مصادر موثوقة، أو غير المستندة لمصدر أصلاً حيث يصبح رئيس جماعة إرهابية، أو اسمٌ لشخص غير موجود، أو متصفح للمواقع على الإنترنت ممن أسعفه خياله باختراع حدث هنا وقضية هناك، محوراً لسبق صحفي، تُبنَى عليه وجهات النظر، ويتأثر فيه المتلقّي، بسيطاً كان أم على سويّة عالية من الوعي، هنا ببساطة، يتحول الإعلام إلى وجه آخر للإرهاب، ومع تدفق المعلومات والأخبار كل ثانية، تصبح محاولة تنقيتها وتحليلها مهمة شبه مستحيلة…
زاوية الشباب:
لماذا احتُلّت فلسطين؟
صدام أبو دية
عندما ندافع في نقاشاتنا عن قلاع القومية العربية في فترات حكم القوميين العرب، من الرئيس جمال عبد الناصر في مصر إلى حكم الشهيد صدام حسيـــن في العراق إلى حكم الرئيس بشار الأسد في سورية، كثيراً ما يكون أحد أهم أسباب دفاعنا عنها هوالموقف من احتلال فلسطيــــــــــــــن، مما خلق انطباعاً عند البعض بأننا منحازون لفلسطين كقطر ونسخّر كل الجهود لأجلها، ولو كان ذلك على حساب بقية الأقطار العربية، وهي الفكرة التي يحاول الغرب والصهاينة أنفسهم الترويج لها، بمعنى أنهم كثيراً ما ردّدوا أن الحروب العربية-الصهيونية ضيّعت الدول العربية ومواردها وشبابها ومستقبلها. ولا يمكن الردّ على مثل هذا القول وتفنيده إلا بتوضيح العقدة الرئيسية وهي: لماذا احتُلّـــــــت فلسطيــــــــــن؟ وكيف احتُلّت؟ ومن الذي قام باحتلالها؟ وهل احتُلّت لأنها أرض الميعاد أم لموقعها أم لأسباب أخرى؟
علينا إذن أن نفهم هذه العقدة الرئيسية لنفهم كل ما يجري من حولنا من أحداث في وطننا العربي منذ مئات الأعوام إلى يومنا هذا …
بداية الحكاية:
قام توماس كوبرت اليهودي الإيرلندي بإرسال رسالة إلى الحكومة الفرنسية ينصح فيها الفرنسيين باحتلال الشرق وخلق وطن لليهود في فلسطين ليكون ركيزةً لفرنسا في ذلك الجزء من العالم. وقد تبنّى نابليون هذه النصيحة عام 1799 فحدّد أهداف حملته على فلسطين بهدفين: الأول، قطع طريق الهند على إنجلترا وإقامة مستعمرة فرنسية على تلك الطريق، والثاني، تحويل البحر الأبيض المتوسط إلى بحيرة فرنسية. فجاء نداء نابليون يوم 4 نيسان 1799 م من خلال الصحيفة الفرنسية الرسمية “ليمونيتور” داعياً فيه اليهود للانضواء تحت رايته لإقامة القدس القديمة منادياً إياهم: “يا ورثة فلسطين الشرعيين”! وهكذا يكون نابليون أول من وعد اليهود بفلسطين، لكن سرعان ما تلاشى ذلك الوعد مع هزيمته على أسوار عكّا.
في عام 1805م وصل محمد علي باشا الحكم في مصر، وخاض العديد من المعارك الداخلية ضدّ المماليك إلى أن استتبت له أمور الحكم بشكل كامل. وفي عام 1816 بَسَط سيطرته على بلاد الحجاز بعد أن تمّ تطهيرها من آل سعود على يد ابنه إبراهيم باشا بأمر من الخلافة في اسطنبول. بعدها تولّد لديه حلم إقامة دولة عربية واحدة، فتوجّه إلى السودان ليحكم سيطرته عليه في عام 1822م، ثم توجّه إلى بلاد الشام ليحررها من نير الحكم العثماني. وقد وصِفت معارك بلاد الشام أنها كانت سهلة نسبياً على جيش إبراهيم باشا لأنها لاقت ترحيباً شعبياً كبيراً وتمّ استقبال قواته كجيوش محرِرة، تخلّص العرب من الحكم العثماني. اكتمل تحرير بلاد الشام في عام 1833م واعتبر إبراهيم باشا جبال طوروس الحد الفاصل بين الدولة العربية والدولة العثمانية، وتمّ الاتفاق على ذلك رسمياً مع تركيا في اتفاقية “كوتاهية”.
عندما كان يُسأل إبراهيم باشا عن معاركه متى ستتوقف، كان يجيب: إلى أن تنتهي الأماكن الناطقة بالعربية. فاعتبر حدود الدولة العربية هي اللسان العربي، ويقول باركر (قنصل بريطاني): كانت جيوش محمد علي باشا منهمكة بتحرير الشعب العربي وجمعه في إمبراطورية عربية.
في عام 1840م تمّ توقيع معاهدة لندن التي أقامت تحالف الدولة العثمانية (“الخلافة الإسلامية”) مع إنجلترا وروسيا والنمسا وبروسيا (“الدول الصليبية”) ضد الدولة العربية الناشئة بقيادة محمد علي باشا. وانتهت هذه الحرب بخسارة بلاد الشام وبلاد الحجاز وانحسار حكم محمد علي باشا في مصر والسودان، وتفكيك جيش محمد علي، والنهضة الصناعية التي شرَعَ بتأسيسها، بفضل التدخل الأجنبي المباشر، خصوصاً البريطاني، لمصلحة الدولة العثمانية.
هكذا تنبّه العالم لخطر قيام دول عربية واحدة في حيّزها الجغرافي الطبيعي الذي يقع في قلب العالم القديم وحدوده على أهم ثلاث قارات آنذاك، والذي يحتوي على خيرات تجعله غنياً قوياً عزيزاً مستقلاً، وقطباً دولياً لا يُشقّ له غبار؛ لذلك أتت اتفاقية لندن لتضمّ أهم إمبراطوريات العالم في ذلك الوقت ضد الدولة العربية كمشروع.
وفي نفس العام الذي هُزم فيه محمد علي باشا، العام 1840م، أرسل البارون اليهودي روتشيلد خطاباً إلى وزير خارجية بريطانيا بالمرستون، الذي أصبح فيما بعد رئيس وزرائها، يقول فيه:
(إن هزيمة محمد علي وحصر نفوذه في مصر ليسا كافيين لأن هنالك قوة جذب بين العرب، ولو نظرنا لخريطة بقعة هذه الأرض -الوطن العربي- لوجدنا أن فلسطيـــــــن هي الجسر الذي يصل بين مصر وبين عرب آسيا، والحل الوحيد هو زرع قوة مختلفة على هذا الجسر، والهجرة اليهودية تستطيع أن تقوم بهذا الدور …)
بعدها أرسل بالمرستون إلى سفيره في إسطنبول مذكرةً يشرح فيه الفوائد التي سيحصل عليها السلطان العثماني من هجرة اليهود إلى فلسطين حيث أنها ستضعف أي مخطط وحدوي لـمحمد علي باشا أو من يخلفه.
بعد تلك الرسالة وهزيمة محمد علي باشا بدأت أعداد اليهود بالتزايد على أرض فلسطين وفق التسلسل التالي:
– في نهاية عام 1840م بلغ عدد اليهود في فلسطين 10000 يهودي،
– في عام 1855م قام الثري اليهودي”موسى مونتفيوري” بشراء قطعة أرض داخل مدينة القدس من خلال السلطات العثمانية،
– في عام 1857م تمّ تأسيس أول مستوطنة يهودية “يمين موشي” نسبة إلى مونتفيوري،
– في عام 1860م تمّ بناء مستوطنتين في قولونيا وطبريا وأصبح عدد اليهود ما يقارب 15000 يهودي،
وفي عام 1882م جاءت أول هجرة يهودية رسمية كبرى بمساعدة السلطات العثمانية وكان تعدادها 25000 يهودي، ولوعدنا لتلك الفترة لوجدنا أن عبد الحميد الثاني هو من كان على سدة الحكم السلطنة العثمانية في تلك الفترة الممتدة بين عامي 1876 و1909! وقد أقيمت في تلك الفترة أيضاً العديد من المستوطنات الصهيونية في فلسطين.
هكذا بذر الصهاينة بذاراً لمشروعهم داخل فلسطين حتى أتى المؤتمر الصهيوني الأول في بازل عام 1897 الذي أقرّ هدف الصهيونية وهو”إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين يضمنه القانون العام”، على أن يتمّ استغلال كل الفرص التي تتيح لهم ذلك.
وكانت الفرصة الأكبر تتمثل بمؤتمر” كامبل بنرمان” … نسبة إلى رئيس وزراء بريطانيا آنذاك، هنري كامبل بنرمان، وقد انعقد هذا المؤتمر في لندن بدعوة من حزب المحافظين البريطاني، وضمّ الدول الاستعمارية في ذلك الوقت وكان هدفه إيجاد آلية للحفاظ على مصالح ومكاسب تلك الدول وضمان تفوّقها على العالم لأطول مدة ممكنة، وهي بريطانيا، فرنسا، إسبانيا، هولندا، بلجيكا، إيطاليا، والبرتغال.
وقد استمرت اجتماعات مؤتمر “كامبل بنرمان” على مدار عامين من 1905م إلى 1907م، وكان يضمّ ممثلين عن الدول الاستعمارية، بالإضافة إلى كبار علماء الاجتماع والتاريخ والاقتصاد والزراعة والجغرافيا والبترول.
وكانت خلاصة ذلك المؤتمر أن الخطر الأكبر الذي يهدد مصالح تلك الدول الاستعمارية وهيمنتها هو وحدة الوطن العربي لما يمتلكه من مقومات تجعله متفوقاً على العالم أجمع، وهذه المقومات هي:
– الموقع الجغرافي، الذي يقع في قلب العالم وعلى طريق التجارة العالمية ليربط أهم ثلاث قارات في العالم (آسيا، إفريقيا، أوروبا).
– السكان، وهم شعب واحد لديه نفس اللغة والتاريخ والدين والطموحات والمشاكل.
– الخيرات الموجودة في هذه البقعة من موارد طبيعية وخيرات زراعية تمكنها أن تستغني عن العالم بأكمله وتضمن تفوقه في كافة المجالات.
وجاءت توصية مؤتمر “كامبل بنرمان” بإقامة كيان فاصل “جسم غريب” في قلب الوطن العربي له ثلاثة أهداف وهي:
- فصل الشطر الآسيوي عن الشطر الأفريقي من الوطن العربي.
- أن يكون ولاؤه دائماً للغرب.
- أن يضمن عدم قيام أي دولة وحدة قوية من حوله وأن يجعل المنطقة في حالة عدم استقرار دائم.
وهنا تلقّفَ الصهاينة توصيات هذا المؤتمر، وعرَضوا أنفسهم بأن يكونوا ذلك الجسم الغريب الذي يحقق توصياته.
إلى هنا سنتوقف عن سرد الأحداث لأنها باتت شبه معروفة لدى الجميع لنستخلص مما سبق أن احتلال فلسطين ليس هدفه فلسطين بمساحتها وهي 27 ألف كيلومتر مربع، بل الهدف من احتلال فلسطين هو تفتيت الوطن العربي بمساحته وهي 14.3 مليون كم مربع ومنع قيام الوحدة العربية لما ستشكله من قوة ضاربة تتفوق على العالم أجمع وذلك باعتراف الدول الكبرى في هذا العالم. فاحتلال فلسطين موجّه ضد مصر، وسورية والعراق، وضدّ المغرب والجزائر والجزيرة العربية واليمن، قبل أن يكون موجّهاً ضد فلسطين، ولذلك اقتضى التنويه.
المراجع:
– الموسوعة الفلسطينية \الحملة الفرنسية على فلسطين
– كتاب الفرعون الأخير محمد علي \جيلبرت سينويه
– موقع أرشيف مصر
– موقع الدراسات الفلسطينية \الوثائق
– كتاب دور “إسرائيل” في تفتيت الوطن العربي \أحمد سعيد نوفل
– مركز المعلومات الوطني الفلسطيني (وفا)
– دراسة تفكيك الخرافة السلطان عبد الحميد الثاني \د. فدوى نصيرات
– مركز الكاشف للمتابعة و الدراسات الاستراتيجية \وثيقة كامبل السرية
الإسلام بين التّنوير والتّحقير
محمد العملة
تتباين البُنية السيكولوجية للأمم بفعل عوامل موضوعية يفسّرها قانون التاريخ، منها الجغرافيا والمناخ والموروث ونمط الإنتاج السائد، وهو ما يؤثّر على السّمت العام القائم فيها؛ الذي يعكس بدوره المنطق الذي يتعامل فيه هذا المجتمع أو ذاك مع متطلبات الحياة اليومية وأحداثها، وأيضاً يؤثر في فهمه للأمور من زاوية قد تختلف مقارنة بالأمم والمجتمعات الأخرى.
ينسحب ذلك على الخصال المشكّلة لشخصية الأمة، فهي إرثها الذي يشبه أرضاً تتلقى وابلاً من الأمطار على امتداد فترة زمنية ليست قصيرة، قبل أن يظهر أثر الزرع فيها على سطحها الخارجي.
يضرب اليابانيّ “إينازو نيتوبي” في كتابه “البوشيدو-روح اليابان” مثالاً على ذلك، ينطلق فيه من خصلَتيْ اللطف والتهذيب وكيف يفهمهما كل من الأمريكي الغربي والياباني الشرقي، والمثال باختصار أن الأمريكي عندما يقدم لك هديّة فإنه يصفها بأنها قيّمة، لأنها لو لم تكن كذلك لما قدّمها لك، لكن الياباني سيقول لك أنك شخص مقدّر وليس هناك من هديّة قيمة بما يكفي لتقديمها لك، فهو ينظر للهدية من ناحيتها المعنوية لا المادية، ولو قال بأن هديّته قيّمة، فسيكون هذا من قبيل الإهانة لك.
المثال بحالته هذه يكشف عن منطقيْن مختلفين لكن مؤدّاهما واحد، وهو تقدير المهدى إليه، فالغربي يعمد للكشف عن قيمتها المادية، أما الشرقي فيتحدّث عن جوهر مفهوم الهديّة، ونحن كأمّة عربيّة لا نختلف كثيراً عن أبناء الشرق بعمومه، فنحن جزء منه، لكن عوامل التباين والخصوصية التي أشرت إليها في البداية تحثنا على اتّباع طريقة معيّنة فيها صلاحنا وهي التي تميّزنا عن غيرنا من الأمم حتى وإن كان بيننا وبينهم قواسم مشتركة عديدة.
من الأسئلة الملحّة عن نهوض الأمة العربية ولحاقها بركب الحضارة والعِلم، لإبقائها ضمن محيط لا يتجاوزُه التاريخ تبرز إشكاليات عديدة، “الحداثيّون” والليبراليّون وحتى بعض اليساريين على اختلاف انتماءاتهم يأخذون بمنطق القطيعة مع الموروث -بما يمثله من أعراف ودينٍ وملّة- وهدمه وتصنيفِه كسبب في كل مشاكلنا الحاصلة، والإسلامويّون يتمسكون بنسخة صهيونية عن الإسلام لا تأخذ به في ضوء نصّه المرجعي الأول “القرآن الكريم”، وكلا الطرفين لا يخدم نهوض الأمة ولا وحدتها؛ بل على العكس يُسهم في تفتيتها والإمعان في تعميق مشاكلها.
ثقافة القطيعة مع الموروث تحدث عنها نيتوبي في كتابه الذي ذكرناه، ويوردها في سياق ما طمح إليه بعض أبناء جيله لإلغاء موروث البوشيدو، ويعني “طريق المحارب” أو قانون الساموراي الأخلاقي الضارب بعمق في الهوية القومية اليابانية، حيث اعتبروه عائقاً أمام نهوض اليابان وتقدّمها، لكن نيتوبي يستشهد في كتابه بالآية القرآنيّة “وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه”، متّهِما بذلك الحملات التبشيريّة التي رآها فاشلة لجهلها الشديد بتاريخ اليابان وموروثها، متسائلاً: “أتراهم يسخرون من تاريخ أمّة؟”، متابعاً كلامه أن الحملات التبشيرية الأمريكيّة والإنجليزية تحمل التصورات الإنجلوساكسونيّة الغريبة عن المسيح وتعاليمه، التي لا يمكن بغرابتها أن تجد لها مكاناً على شجرة “البوشيدو” الأساس في إرث اليابان كله، وهو ما يمكن القياس عليه بالإحالة إلى أمتنا العربيّة وموروثها الأكبر “الإسلام”.
بشكل عام، -ما خلا البعض من المستشرقين- تنظر مؤسسة الاستشراق إلى شعوب الشرق أنها لا تخضع لقانون التاريخ، وأن معايير الدراسات التاريخية وأساليبها لا تنطبق عليهم، بزعمهم أنه لم ولن يكون للأمم الشرقية تاريخ بمعنى هذه الكلمة المعروف بين علماء أوروبا، ولنأخذ مثلاً ما يقوله المستشرق “شلوسر” في هذا السياق: ” إن أهم فرق بين تاريخ الغرب وتاريخ الشرق هو أن الدين والشعائر والآداب والنظام المدني، حتى الفنون ترتكز في الدول الشرقية المشبعة بروح الاستبداد والسلطة الدينية على نفي تطور الموجودات ونفي تطور الحضارة المحلية وتأثير الحضارة العربية عليها!”.
بعبارة أخرى، يريد “شلوسر” القول إنَّ تاريخ أمم الشرق يسير بوتيرة واحدة يكفي معها أن نقرأ مرحلة قصيرة منه لنفهم منها كل الأطوار التاريخية لأي أمة، بل للأمم جميعها، وهنا لن أفنّد التهافت في كلامه ولن أتحدث عن التناقض فيه عندما حشر تأثير الحضارة العربية على تاريخ الشرق، الذي يعني أن التطور في تاريخ هذه الأمم حاصلٌ بتأثير حضارة العرب عليها، لكنه ينفي تطورها ثم يقول بتطورها في آن واحد!
إنّ منهجية مؤسسات الاستشراق تطلق أحكاماً عامة على الأمم وتدمغها بوسْم التخلف والخروج من التاريخ، لإحداث قطيعة كاملة لهذه الأمم مع ماضيها، وبالتالي قتل أي محاولة لنهوضها القومي. انتشرت أفكار الاستشراق هذه خلال حقبة الاستعمار، فهي موجودة لأطماع سياسية، وهي نفس الحقبة التي بدأت تتشكل فيها المشاعر القومية الرافضة له -أي الاستعمار-على شكل اعتزاز قومي بالماضي، شكّل حافزاً تقدّميّاً لمواجهة الاستعمار ورافضاً في ذات الوقت لتلك النظرة الاستعلائية للأوروبيين إزاء الشعوب المستَعمَرة، نظرة كانت ترمي لقطع علاقات هذه الأمم مع ماضيها وإفراغ ذاكرتها الجمعيّة من أي اعتزاز بنفسها، ووصفها بالقصور الذي لم ينتج إرثاً في الماضي ولن يقدر على إنتاجه حاضراً ومستقبلاً.
لكن الارتداد الأيديولوجي لهذه النظرة الاستعلائية حدا بجماعات عديدة -كجماعات ما يسمى الإسلام السياسي-إلى التمسك المفرط بالتراث واستحضاره كما هو دون النظر إلى سياقه التاريخي في وقته، ومحاولة تطبيقه حرفيّاً بشكل بدائي بمعزل عن فهم مضامينه الكامنة فيه، أي تكراره، ما أنتج نزعة شوفينيّة قميئة انتحلت نسخة مشّوهة عن التراث، فكانت ردة فعلها من جنس الفعل نفسه، أي مواجهة الاستعلاء الاستعماري بمنهجية استشراقية تبنّاها أبناء الشرق أنفسهم على الشرق نفسه!
يُحمِّل المفكر الراحل “حسين مروّة” في مؤلَّفه “النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية” هذه النزعة الشوفينية السَّببَ في تصاعد أصوات تنادي بإحداث القطيعة مع الموروث في العقل العربي كردّات فعل مترافقة مع الانحيازات الليبرالية والنظرة الاستعلائية لمؤسسات الاستشراق، هذا من جهة، ومن جهة أخرى هي نزعة أيديولوجية برجوازيّة لا تفهم التراث بعقليّة علميّة معاصرة.
يعزو مروّة المشكلة إلى غياب حقيقتين هما:
- حقيقة المحتوى الثوري لحركات التحرر الوطني العربيّة في حاضرها وآفاق مستقبلها.
- حقيقة الترابط الجوهري بين ثورية هذا المحتوى وثوريّة الموقف من التّراث أو الموروث، أي أن يكون الموقف من التّراث منطلقاً من الوجه الثوري للحاضر نفسه.
مع اشتداد الصراع الأيديولوجي يرى مروّة أن قضية الموقف من الموروث تتربع في واجهة القضايا المطروحة للحل، فهو لا ينفكّ يقول إنَّ حلّها يستلزم النظر إليها من زاوية جديدة وأساس جديد لا إلغاءها، بل يقول: “أساس تقويمه (أي الموروث) واستيعابه وتوظيفِه لمصلحة الصراع الأيديولوجي نفسه؛ لذا أصبحت القضية معقدة بقدر ما أصبحت مشكلة من مشكلات الفكر المعاصر، من هنا أصبح من غير الممكن حلّها في المرحلة الحاضرة إلا على أساس أيديولوجي”. ويتابع: “إن الحلول البرجوازية لقضية التراث تكشف لا عن تخبط هذه البرجوازيّة أيديولوجيّاً وحسب، بل تكشف عن القصور الذي تتسم به تلك من حيث عدم قدرتها على التصالح مع روح العلم المعاصر، وربما كان هذا القصور نفسه انعكاساً لذلك التخبط الأيديولوجي الذي أوقعتها فيه تحولات العصر العميقة”.
الموقف الأيديولوجي في حقيقته الموضوعية لا الذّاتيّة تعبير عن موقف طبقي، والانحياز الأيديولوجي لمصلحة الأمة تعبير عن موقف طبقي منحاز لها، بالتالي لا يمكن حلّ المشكلة من أساسها إلا بأسلوب علمي يستلزم إبراز المحتوى الكامن في هذا الموروث الروحي والربط بينه وبين المحتوى القومي للثقافة المعاصرة، والبداية هي وجوب التفريق بين التراث وبين معرفته؛ فالتّراث ثابت لكن معرفته مبنيّة على أي مصدر؟ هل معرفته مبينّة على النزعة الاستشراقية المتعالية عليه والسّاعية لإحداث القطيعة معه؟ أم هي مبنيّة على فهم أيديولوجي جامد يخرجه من سياقه التاريخي ويولّد رد فعل كارهٍ له؟ هل هي آراء فرديّة؟ أم هي موقف ثوري شمولي يبني معرفته للتراث على أساس الحاضر المعاصر وفهمه في ضوء أسلوب علمي عقلي لا يلغيه ولا يتركه عرضة للنهب أو التّدمير؟
تقع على عاتق القوميين -أكثر من غيرهم-مسؤوليّة الحفاظ على الموروث الذين هم أحق به من غيرهم والبناء عليه؛ أوَلم يكن الإسلام إلا نواة الدولة العربية الواحدة؟!
حسناً؛ سؤالي السابق استفهاميّ واستنكاريّ في ذات الوقت، والجواب عليه ينطلق من قاعدة أن رسالة النبي العربي محمد بن عبدالله عليه السلام، جاءت لإحداث تغيير في السلوك القبلي القائم آنذاك والنزوع به نحو وحدة العرب ضمن إطار التوحيد، في ذلك الوقت كان التوحيد مفهوماً في إطاره المركزي الإيماني، لكن ذلك لا ينفي أن مضامين الرسالة نفسها نزعت نحو إحداث سلوك اجتماعي جديد أسّس فيما بعد للدولة العربيّة، وهي دعوة للتفريق بين المِلّة وبين الدّين بوصفه قانوناً أو دستوراً وحّد مجموع الأذهان العربيّة في عقل عربي جامع، فكان معبّراً عن البعد المعرفي الرابط لهذه المنظومة “الإسلام” مع السّمات التاريخية لتلك الأمة العربيّة، وطريقاً لمسيرة تطور المجتمع العربي ومسار تطوره الفكري.
الأيديولوجيات منطقيّاً تخضع لقانون التلاشي لا الإلغاء؛ ولنا في مشروع “لاهوت التحرير اللاتيني” مثال. أما إحداث القطيعة أو التمسك الشوفيني بالموروث فإنه يتماهى مع مشاريع التفكيك ولا يعول عليه في إحداث أيّة نهضة، والحل باعتقادي يكون بفهم متنّور للموروث يأخذ بعين الاعتبار انتماء الشعب العربي له كإرث تاريخي، وبنفس الوقت يقطع الطريق على المتمسّكين بنسخة إرهابية منحولة منه، ترى فيه طريقاً للسّلطة عبر مقاصد لم ترِد فيه أصلاً ضمن نصّه المرجعي الأول “القرآن الكريم”، أو ترى فيه طريقاً للموت والقتل والدّمار تحت عناوينِ “الجهاد” و”الشّهادة”! حتى في هذه نحن نقول “النّصر أو الشهادة”؛ فالمقولة مرتبطة لدينا في الذّهنية العربيّة بالعيش العزيز الكريم تحت راية النّصر، أو الموت رفضاً للذّل، لا بهدف الموت نفسه، وقد قال قائل: “الاستهانة بالموت عملٌ شجاعٌ من أعمال البسالة، ولكن حيثما تكون الحياة أفظع من الموت، فإنّ البسالة الأكثر صدقاً عندئذ تكون الإقدام على الحياة”.
نحن أولى بالإسلام منهم!
هل الأريــوســيــة عقيدة توحيد؟
علي بابل
يهدف هذا البحث إلى تقصّي حقيقة طائفة قديمة في المسيحية كان لها الأثر العظيم على تاريخ الدين المسيحي بسبب الانشقاق الذي سبّبته داخل الكنيسة المسيحية في العالم القديم والذي أجبرَ الإمبراطور قسطنطين العظيم أن يجمعَ بطاركة الكنائس الشرقية والغربية في مجمع كبير لنقاش المسألة والخروج بحلول أو التوحّد ضمن رأي واحد يجمع بين الكنائس المسيحية في العالم لكيلا يبقى هناك أي انشقاق في المسيحية التي أصبحت فيما بعد الدين الرسمي للدولة البيزنطية.
ترجع جذور الدعوة الأريوسية إلى ما قبل ولادة القسّ آريوس، فقد خرج الكثير من القساوسة أو البطاركة بدعوات مشابهة لما دَعى له آريوس. فقد كان “بولس السميساطي” أحد أشهر دعاة الوحدانية “monarchianisme” لكنه ليس الأول في هذه الدعوة. بولس السميساطي الذي دُعِم من الملكة زنوبيا لعدة أسباب، لعلّ أحدها هو كره الرومان والعداء لهم من قبل الأثنين، إلّا أنّ دعوة بولس لم تنتهِ بوفاته فلقد أكملها وريثه لوقيانس ومن ثم آريوس الذي تأثر بهذه الدعوة والفكر، (الخضري، 1981، ص601). يقدّم هذا البحث الآراء الإسلامية حول الأريوسية انطلاقاً من حديث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لهرقل ملك بيزنطة والذي ذكر فيه كلمة “الأريسيين”، ويشرح ماهية العقيدة الأريوسية ومدى قربها أو بعدها عن التوحيد من خلال مقارنتها بعقيدة الثالوث الذي يقوم عليها اللاهوت المسيحي إلى الآن.
هل “الأريسيون” طائفة موحّدة لله تعالى؟
اختَلف المفسّرون المسلمون حول معنى كلمة “أريسيين” التي جاءت في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، إلى “هرقل” ملك الإمبراطورية البيزنطية، وهذا نصّ الرسالة (بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم: سلامٌ على من اتّبع الهدى. أما بعد فإني أدعوك بدعوة الإسلام. أسلم تسلم. واسلم يؤتك الله أجرك مرتين وإن تولّيت فإنّ عليك إثم الأريسيين. (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير،2006، ص851). وقد ذهب جمعٌ منهم إلى أنها تعني “الفلاحين”، وقد كان الفلاحون هم سواد أهل الدولة البيزنطية في ذلك الوقت، وقد أراد الرسول صلى الله عليه وسلم القول بأنه في حال رفْضك للإسلام فإنّ عليك إثم رعاياك من الشعب. وقد أيّد هذا القول الكثير من المؤرّخين المسلمين منهم النووي والأزهري (ابن تيمية، الجواب الصحيح، 1999، ص280).
وهناك الرأي القائل بأنّ “الأريسيين” هم الموحدون الذين رفضوا “التثليث”، وقالوا بوحدانية الخالق ونَسبوا إلى القسّيس “آريوس”، وقد جاء الاسم في بعض المصادر الإسلامية بـ (عبد الله بن أريس) (العسقلاني، فتح الباري، 2005، ص732-733)، وذلك ما ذكره أيضاً ابن حزم (ابن حزم، الفصل في الملل ص109). أما أريوس فهو أحد الرهبان الذين رفَضوا عقيدة التثليث في بداية القرن الرابع الميلادي وعاش تحديداً ما بين”256–336” ميلادية (International journal of orthodox theology 3:3، 2012، p107)، وهو راهبٌ ليبي، وكان قد نُصّبَ على إحدى كنائس الإسكندرية كنيسة “بوكليا”(عطية، تاريخ المسيحية الشرقية، 2012، ص34)، واشتُهر هذا الراهب وأتباعه بعد المجمع المسكوني الأول أو ما يسمى مجمع “نيقيه” الذي عقَده الإمبراطور قسطنطين الأول عام 325 م. وقد كان الصراع في هذا الاجتماع بين الراهب آريوس وبين بابا الإسكندرية “إسكندر الأول” حول طبيعة المسيح وهل هو بشر أم إله.
وحول شرح العلماء المسلمين ما هو المقصود بـالأريسيين، هذه بعض أهم الآراء التي ذُكرت في التفاسير الإسلامية: فقد ذَكَر ابن حجر العسقلاني: (وقال الجوهري: هي لغة شامية، وأنكرَ ابن فارس أن تكون عربية، وقيل في تفسيره غير ذلك لكن هذا هو الصحيح هنا، فقد جاء مصرحاً به في رواية ابن إسحاق عن الزهري بلفظ ” فإنّ عليك إثم الأكارين” زاد البرقاني في روايته: يعني الحراثين، ويؤيده أيضاً ما في رواية المدائني من طريق مرسلة ”فإنّ عليك إثم الفلاحين”، وكذا عند أبي عبيد في كتاب الأموال من مرسل عبد الله بن شداد، وإن لم تدخل في الإسلام فلا تحلّ بين الفلاحين وبين الإسلام”، قال أبو عبيدة: المُراد بالفلاحين أهل مملكته، لأن كل من كان يزرع فهو عند العرب فلّاح، سواء كان يلي ذلك بنفسه أو بغيره) (العسقلاني، فتح الباري، 2005، ص 732-733).
وفي اللغة الآرامية التي تُعتبر أم اللهجات “السامية” جاءت كلمة “Arian”على أنها الفلاحين بحسب قاموس اللغة الآرامية العبرية، وحرفياً جاءت بمعنى ـ”field laborer”(Jastrow،A Dictionary ،p120). وهذا يقوّي أصحاب الرأي القائل بأنّ كلمة “أريسيين” قد جاءت لتفيد بأنّ الفلاحين هم المقصودون في رسالة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
لقد كانت الدولة البيزنطية تعتمد على بلاد الشام ومصر بشكل رئيسي زراعياً وقد سُميت المنطقة “سلّة غذاء روما”، ولهذا فقد كان عامّة الشعب “البيزنطي” من المزارعين، وبما أنّ الدولة البيزنطية كانت تضم العديد من الشعوب والهويّات القومية، لذلك من الجائز أن يكون قصْد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إثم عامة الشعب على هرقل في حال لم يدخل الإسلام، لأنّ سواد العامّة عادة يتّبعون في دينهم الراعي أو الملك وعليّة القوم.
وتنحصر أغلب الآراء في معنى كلمة “الأريسيين” برأيين هما:
- الفلاحون أو “الأكارين” وهذا ما ذهب له الكثير من المفسرين الأوائل كما ذُكر أعلاه.
- أتباع القسّ “آريوس” الذين خالفوا العقيدة المسيحية المتركّزة أساساً على الثالوث الذي رفَضَه آريوس، وسيفصّل البحث عقيدته لاحقاً. وقد دَعَموا رأيهم بأنّ كلمة “آريسيين” ليست عربية وأنها تقصد الموحّدين من عامّة الشعب، وسُمّوا كذلك نسبة “لأريوس”. (إضافةً إلى قوْلهم بأنّ مصر دخلت الإسلام بدون قتال يُذكر، على يد عمرو بن العاص رضي الله عنه، وذلك لأن الإسلام دين توحيد وهم موحّدون أساساً وبالتالي الشعب المصري المضطهَد فضّل العرب المسلمين الموحّدين على العجم المثلثين)، وهذا ما أيّده الأستاذ فاضل سليمان في كتابه أقباط مسلمون قبل محمد صلى الله عليه وسلم (سليمان، أقباط موحّدون، 2010، ص50).
ولكنّ القول بأنّ أغلب أهل مصر كانوا من أتباع “آريوس” لا تؤيدها الأحداث التي تَلَت موت الإمبراطور قسطنطين الأول 337 ميلادية، فلقد تمّ (نفي القديس “أثناسيوس” خمس مرات) (عطية، تاريخ المسيحية الشرقية، 2010، ص36) على فترات مختلفة وتمّت إعادته لكرسي كنيسة الإسكندرية مراتٍ عدة بفعل الغضب الشعبي في الإسكندرية وضغْط الرهبان المصريين. وهذا ينفي صفة “الأريوسية” عن سواد العامّة في مصر.
و”أثناسيوس” (p 5011985، Frend, W. H. C, Acclaim The Rise of Christianity) هو شماس في كنيسة الإسكندرية، وقد تولّى الرد على آريوس في مجمع نيقيا 325 ميلادية، وقد ورث كرسي كنيسة الإسكندرية بعد موت البابا “إسكندر” بابا الإسكندرية في العام 328 م. وقد أصبح فيما بعد العدو الّلدود للأريوسية طيلة حياته. (الخضري، تاريخ الفكر المسيحي، 1981، ص645).
ولو أُخذ بأن الأريوسية قد انتشرت في مصر وما حولها بعد موت آريوس في منتصف القرن الرابع الميلادي وذلك بسبب سيطرة بعض الرهبان الآريوسيين على أهمّ الكنائس (د.محمد، أنمار، اللاهوت المسيحي،2011، ص211)، فقد كان مجمع القسطنطينية 381 ميلادية الشعرة التي قَصَمت ظهر الآريوسية في المنطقة. فقد أقرّ هذا المجمع عقيدة الإيمان “النيقية” مرةً أخرى.
من الناحية اللغوية كلمة “أريسيين” التي ذُكرت في رسالة النبي إلى هرقل، جاءت مختلفة الكتابة في أكثر من رواية بعضها كان يحوي حرفي ياء في النهاية قبل النون والآخر ياء واحدة، والهمزة مفتوحة في كلا الكتابتين والراء مكسورة مخففة، والثالث الأريسين بكسر الهمزة وتشديد الراء والياء بعد السين أو اليريسيين. (النووي، صحيح مسلم، م12، ص109).
ولكن هل كان القسّ أريوس موحّداً؟
جاء معنى كلمة “وحد” في معجم العين (ووحد الشيء فهو يحد حدةً، وكل شيء على حدة بائن من آخر. يقال: ذلك على حدته وهما على حدتهما، وهم على حدتهم، والرجل الوحيد ذو الوحدة، وهو المنفرد لا أنيس معه، وقد وحد يوحد وحادة ووحدة وواحداً. والتوحيد: الإيمان بالله وحده لا شريك له، والله الواحد الأحد ذو التوحد والوحدانية) (الفراهيدي، العين، 2003، ج4).
هذا معنى التوحيد في اللغة العربية. وبالنسبة للعقيدة “الأريوسية”، بحسب الأب الدكتور شحاتة قنواتي فهي: (إن الله واحد غير مولود، لا يشاركه شيء في ذاته تعالى. فكل ما كان خارجاً عن الله الأحد إنما هو مخلوق من لا شيء بإرادة الله ومشيئته). ويكمل القول: (أما “الكلمة” فهو وسط بين الله والعالم. كان ولم يكن زمان، لكنه غير أزلي ولا قديم. بل كانت مدة لم يكن فيها “الكلمة” موجوداً. فالكلمة “مخلوق” بل إنه مصنوع، وإذا أنه مصنوع، وإذا قيل إنه “مولود” فبمعنى أن الله “تبناه”. ويؤدّي ذلك إلى أن الكلمة غير معصوم طبعاً، ولكن استقامته حفظته من كل خطأ وزلل. فهو دون الله مقاماً، ولو كان معجزة الأكوان خلقاً بلغ من الكمال ما لا يستحيل معه شيء أكمل منه رتبة ومالاً) (قنواتي، المسيحية والحضارة العربية، ص 26).
وقبل الحديث عن طبيعة العقيدة “الأريوسية” سنورد نص قانون الإيمان النيقي باللغة الإنجليزية:
“The Creed Of Nicea”
)We believe in one God the Father All-sovereign, maker of all things visible and invisible; And in one Lord Jesus Christ, the Son of God, begotten of the Father, only-begotten, that is, of the substance of the Father, God of God, Light of Light, true God of true God, begotten not made, of one substance with the Father, through whom all things were made, things in heaven and things on the earth; who for us men and for our salvation came down and was made flesh, and became man, suffered, and rose on the third day, ascended into the heavens, and is coming to judge living and dead. And in the Holy Spirit. And those that say ‘There was when he was not,’ and, ‘Before he was begotten he was not,’ and that, ‘He came into being from what-is-not,’ or those that allege, that the son of God is ‘Of another substance or essence’ or ‘created,’ or ‘changeable’ or ‘alterable,’ these the Catholic and Apostolic Church anathematizes ( (Frend, W. H. C, Acclaim The Rise of Christianity,1985,p499)
وباللغة بالعربية:
(نؤمن بإله واحد، آب ضابط الكل، خالق السماء والأرض، كل ما يرى وما لا يرى، وبرب واحد يسوع المسيح، ابن الله الوحيد، المولود من الآب قبل كل الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، مساوٍ للآب في الجوهر، الذي به كان كل شيء، الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسد من الروح القدس، ومن مريم العذراء وتأنس، وتألم وقبر وقام في اليوم الثالث على ما في الكتب، وصعد إلى السماء وجلس عن يمين الآب، وأيضاً يأتي بمجد عظيم ليدين الأحياء والأموات، الذي لا فناء لملكه، وبالروح القدس الرب المحيي المنبثق من الآب قبل كل الدهور، وبكنيسة واحدة جامعة مقدسة رسولية، وتنرجى قيامة الموتى والحياة في الدهر الآتي) (قنواتي، المسيحية والحضارة العربية، ص26،27).
وهنا يتّفق الباحث مع القول بأنّ آريوس وأتباعه قد رفضوا التثليث، ويقولون بأنّ الله هو الأعلى والأسمى وأنه أزليّ وكان قبل “الابن” أي أنه أقدم من “الابن” رغم أن الابن هو أسمى المخلوقات إلا أنه مخلوقٌ وبشر أي “إنسان”. وقد قال آريوس بأنّ الابن مشابه للأب في الجوهر”Homoiousios” في مجمع نيقيه في وجه البطاركة الآخرين أنصار كنيسة الإسكندرية بقيادة البابا “ألكسندروس” والقديس “أثناسيوس” والذين قالوا أن الابن مساوٍ للأب في الجوهر “Homoousios”. (عطية، تاريخ المسيحية الشرقية، 2012، ص33).
وفي حال كان رفض أريوس لعقيدة التثليث واعتباره السيد المسيح أقلّ رتبة من الله تعالى لا يجعله موحّداً من وجهة نظر إسلامية عقائدية، فهو موحّد بالمعنى العام للتوحيد. ومما قاله شيوخ الإسلام في ما سبق، ذكر علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الطاهري في كتابه المِلل والنِحل: (والنصارى فرق منهم أصحاب آريوس وكان قسيساً بالإسكندرية ومن قوله التوحيد المجرّد وأن عيسى عليه السلام عبدٌ مخلوقٌ وأنّه كلمة الله تعالى التي بها خلق السموات والأرض وكان زمن قسطنطين الأول باني القسطنطينية وأول من تنصّر من ملوك الروم وكان على مذهب أريوس) (ابن حزم، الفصل في الملل، ص109).
بالنظر إلى كل ما سبق من آراء، يرى الباحث بأنّ القسّ أريوس قد خالف العقيدة المسيحية “البولسية” من حيث طبيعة السيد المسيح وجوهر “الثالوث” “Trinity”، وقال بأنّ “الآب” أو الله هو أعظم من “الابن” أو المسيح وهذا لوحده ينسف العقيدة المسيحية من أساسها، ولذلك اعتبرت “الأريسية” هي “الهرطقة” الأكبر في تاريخ المسيحية، بالنظر إلى أنها انتشرت في منطقة “شرق المتوسط” ووصلت إلى أوروبا الشرقية عبر قبائل القوط ومن الممكن أن يكون هذا سبب آخر لاعتبارها البدعة الأخطر على جوهر المسيحية التقليدية.
أمّا بالنسبة لوجهة النظر الإسلامية لبعض الباحثين المسلمين مثل فاضل سليمان، فهي نابعة من مبدأ الدفاع عن الإسلام وأنّه دخل إلى مصر للدفاع عن “الموحّدين” المسيحيين ولم يكن احتلالاً وغزواً. ولم ينتشر بحدّ السيف كما تقول أغلب الكتابات الاستشراقية القديمة والحديثة. وبغضّ النظر عن صحة أو خطأ هذه الفرضية، فقد جاء الإسلام في العرب وانتشر بدايةً على أرضهم، والفتوحات العربية الإسلامية حرّرت الأمة العربية من الخليج إلى المحيط من الاحتلالين البيزنطي والفارسي، وبغضّ النظر عن مستوى الظلم الذي كان واقعاً على شعب هذه المنطقة أو شعوبها فقد كان الإسلام “أيدولوجية” تقدّمية تدعو إلى تحرير الشعوب وتعطي الحرية الدينية لكل الشعوب، خصوصاً أنها حررت الفلاحين الأقنان من الارتباط بالأرض والضرائب الثقيلة التي كانت سائدة في ظل الإمبراطوريتين الساسانية والبيزنطية، مما زاد من جاذبيتها للفلاحين. وقد تقبّل شعب مصر الإسلام والفاتحين المسلمين كمحررين من نفس القومية والمنطقة.
لقد خرَج عشرات رجال الدين المسيحي من أهل المنطقة العربية بأفكار تختلف مع الفكر السائد آنذاك ومنهم بولس السميساطي، لوقيانوس وآريوس، ولعلّ أحد أهم الأسباب التي يرى الباحث أنها دَعَت هؤلاء للخروج ضدّ التيار السائد هو مناكفة الدولة الحاكمة “الرومانية” على اعتبارها دولة أجنبية تحكم أهل المنطقة وتمنعهم من ممارسة معتقداتهم في كثير من الأحيان، أو قل هي مقاومة ثقافية أخذت طابعاً دينياً أو فكرياً في ظلّ عدم وجود قوة سياسية أو عسكرية لهؤلاء المفكرين أو رجال الدين. ولعلّ دعم الملكة زنوبيا لبولس السميساطي وتنصيبه على رأس كنيسة أنطاكيا مؤشرٌ سياسي على أنّ هذه المعارضة في جوهرها سياسية لا دينية.
قدّم البحث ملّخصاً لمجموعة من الآراء الإسلامية والمسيحية، العربية في أغلبها، لماهية العقيدة الأريوسية غالباً ما كانت تتفق بأن هذه العقيدة هي عقيدة مخالفة التثليث لصالح التوحيد، بغضّ النظر أتّفَقَ “التوحيد الأريوسي” مع التوحيد الإسلامي أم لا، فهذا ليس موضوع البحث ولا مجاله.
في نفس الوقت لم يصل الباحث لدليل علميّ يشير إلى أنّ غالبية أهل المنطقة من المسيحيين هم من الطائفة الأريوسية. ولو أنّهم وقفوا مع العرب المسلمين ولم يقاتلوهم في أغلب المدن في المنطقة العربية فهذا يرجع إلى أسباب كثيرة أهمها أن الفاتحين المسلمين هم من نفس القومية والمنطقة، وأن الظلم ذا الطابع القومي والطبقي كان واقعاً عليهم خلال فترات مختلفة من حكم الدولة الرومانية وثم البيزنطية. ويكفي القول بأنّ الأريوسية قد خالفت جوهر العقيدة المسيحية وانتشرت بين الكثير من الأساقفة في كنائس متعددة شرقاً وغرباً لكي تهاجَم بشراسة من قبل أعدائها وتوصَف بأنها الهرطقة الأكبر التي هدّدت كيان المسيحية.
المراجع العربية:
- ابن تيمية، أبي العباس تقي الدين. تحقيق د.علي بن حسن بن ناصر. الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح. م1. الرياض: دار العاصمة، ط2، 1999.
- ابن حزم الطاهري، علي بن أحمد. الفصل في الملل والأهواء والنحل. ج1. بيروت: دار الجيل، دون تاريخ.
- د. الخضري، حنا. تاريخ الفكر المسيحي. ج1. القاهرة: دار الثقافة، 1981.
- سليمان، فاضل. أقباط مسلمون قبل محمد. النور للإنتاج الإعلامي والتوزيع، 2010.
- العسقلاني، أحمد بن حجر. فتح الباري شرح صحيح البخاري. 9م. دار طيبة، دون تاريخ.
- د. عطية، عزيز. تاريخ المسيحية الشرقية. القاهرة: مكتبة الأسرة، 2012.
- الفراهيدي، الخليل بن أحمد. كتاب العين مرتب على حروف المعجم. 4ج، حققه د. عبد الحميد هنداوي. بيروت: دار الكتب العلمية، 2003.
- د. قنواتي، جورج. المسيحية والحضارة العربية. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، دون تاريخ.
- د. محمد، أنمار. اللاهوت المسيحي نشأته – طبيعته. دمشق: دار الزمان، 2010.
- د. محمود، إبراهيم. في تاريخ مصر البيزنطية وحضارتها. القاهرة: دار المعرفة الجامعية، 2006.
- النووي، محي الدين. صحيح مسلم بشرح النووي. بيروت: دار احياء التراث العربي، 1984.
- النيسابوري، مسلم. صحيح مسلم. الرياض: دار طيبة، 2006.
References:
- Burckhardt, Jacob. The Age Of Constantine The Great. New York: DoubledayAnchor books, 1956.
- Fend, W.H.C. Acclaim The Rise Of Christianity. US-Philadelphia: Fortress Press, 1985.
- Jastrow, Marcus. A Dictionary of the targumim, the Talmud babli and yerushalmi, and the midrashic literature. London: luzac and co, n.d.
- Ignat, Adrian. “The Spread Out of Arianism. A Critical Analysis of the Arian Heresy,” International Journal of Orthodox Theology, 3:3, (2012).
عن الخبز الحافي لمحمد شكري
معاوية موسى
ترجمت إلى 38 لغة، ومُنعت من التداول في أغلب الأقطار العربية، خصوصاً في دول الخليج العربي، وبالأخص في العربية السعودية. ثم تحوّلت بعد ذلك إلى فيلم سينمائي حَمَل نفس الاسم، إنها رواية “الخبز الحافي” للروائي العربي المغربي”محمد شكري”.
في “الخبز الحافي” يتعرّف القارئ على بيئة قميئة جداً حَمَلت في بطنها صنوفاً شتى من العذاب الإنساني. الفقر المدقع يتجلّى في (أبهى/أقذر) صوره، في بيئة مسحوقة خاضعة تحت وطأة الاستعمار، جهل، مرض، شعوذة، وموت سريع.
يركّز محمد شكري في روايته على سرد سيرته الذاتية بأسلوب شاق ومشوّق معاً. فهو من أسرة مغاربية تسكن في ريف طنجة، ويحكمها أبٌ قاسٍ ومتسلّط جداً، يقتل ابنه لشكواه المتكررة من الجوع، ويطرد الابن الآخر “الروائي محمد شكري” لمدة عشرين سنة، بعد أن تقاعَدَ الأب من دوره كمقاتل في الحرب الأهلية الإسبانية ضدّ قوات الجنرال اليميني فرانكو، وهي تلك الحرب ذاتها التي تطوع فيها أيضاً كل من الشاعر الشهير غارسيا لوركا ورافئيل ألبرتي والشاعر بابلو نيرودا وكذلك الروائي الشهير جورج أورويل صاحب الرواية الانقلابية والمثيرة للجدل 1984. المهم: كُرْهه الشديد لأبيه دفعه إلى استبدال مجتمعه الذكوري بآخر نسوي، حيث ينغمس بالكامل في مجتمع أنثوي، وتتولد لديه نزعة للعنف والانتقام من كل شيء، ينام في الشوارع، يتشرّد في أزقة مظلمة وخطرة بحثاً عن الطعام القليل، أو عن زاوية لينام فيها، ليدخل دنيا السارقين والمدمنين ويمارس الشذوذ والانحراف، ويجامع عدداً كبيراً ومهولاً جداً من نساء البارات والحانات، يسكر بعنف، يستمني، يزني، يسرق، يدخل إلى السجن، يخرج، تلك هي عناوين حقبة تفتقر إلى الخبز والحنان. يتّعلم القراءة والكتابة بعد 20 سنة من عمره، ودافِعُه الوحيد هنا سماعه عن بطولات القائد القومي العربي عبد الكريم الخطابي والرئيس جمال عبد الناصر.
ليس هناك شكٌ في أنّ شكري في “الخبز الحافي” تجاوَزَ كل الخطوط الحمر في كتابه، وأدخَلنا في حياته بشكلٍ يقلُّ لكاتب أن يغامرَ به، ربما لكونه لم يكن لديه ما يخسره، فلقد كان أستاذاً عادياً لا يملك من المال إلا قوتَ يومه، ولم يكن يتوقع يوماً أن ينال شهرةً في المشرق العربي بحيث تكون لديه بعض الضوابط والكوابح التي تمنعه من تقديم رواية جريئة جداً، ومفتوحة بشكل تتجاوز فيه العرف وخطوط المجتمع المحافظ، مع أننا من الممكن أن نلمسها عند غيره من الروائيين كحيدر حيدر مثلاً في روايته الممنوعة “وليمة لأعشاب البحر” لكن ليس إلى هذا الحدّ من الانكشاف.
إن تصوير محمد شكري وعرضه المباشِر لأكثر المشاهد حميمية وإثارة في علاقاته الجنسية الكثيرة، لم يكن الغرض منها تقديم رواية إباحية أو تجارية، وكل من ينظر للخبز الحافي كذلك لا يخرج عن كونه حكماً سطحياً وساذجاً، لأنّ الجائع المتشرّد لا يعرف الحِكمة، والشذوذ هو نتاج طبيعي للبيئة التي عاش فيها صاحب السّيرة، ربما أصدر كثيرون على الكتاب حُكْماً ببذاءة الألفاظ في عرض الأحداث التي مرّ بها، ولكن البذاءة هي في الأحداث التي عاشها، ولا بذاءةَ عند سرد ما هو بذيء، حيث لا يمكن للإنسان الصادق أن يصفَ شيئاً بذيئاً بألفاظ لمّاعة أو تقطر مجازاً وذلك حفْظاً من خدش الحياء، الحياء يُحفظ عندما يتمّ عرض الحقيقة لتُرى واضحةً ساطعةً كالشمس. وهذا ما فعله شكري في هذا السرْد الحزين، محمد شكري كان صادقاً مع نفسه وأمامنا فحسب، قدّم لنا سيرته من دون أن يضع لها بعض المكياج، هو حتماً لم يُرِدْ سوى أن يكون موضوعياً وصريحاً في كل ما يسرده عن سيرته الذاتية والواقع الذي كان يعيشه أغلب المغاربة آنذاك، ولا أعتقد أن لأحد الشجاعةَ لفعل ما فعل. يقول شكري في الرواية:
“لقد علّمتني الحياة أن أنتظر، أن أعيَ لعبة الزمن بدون أن أتنازل عن عمق ما استحصدته، قل كلمتك قبل أن تموت فإنها ستعرف حتماً طريقها. ولا يهمّ ما ستؤول إليه، الأهم هو أن تشعل عاطفة أو حزناً أو نزوة غافية، أن تشعل لهيباً في المناطق اليباب الموات.
أقول: يخرج الحيّ من الميت، ويخرج الحيّ من النتن، من المتحلّل، يخرجه من المُتخم والمنهار، يخرجه من بطون الجائعين ومن صلب المتعيّشين على الخبز الحافي”.
هذا العرض لسيرته الذاتية نصٌ مؤثرٌ وعملٌ يحتل موقعاً متميزاً في الأدب العربي المعاصر. وليس صدفةً أنه نشر، كما سبق وذكرت بعدة لغات مثل الإنكليزية أو الإسبانية وغيرها، قبل نشره بلغته الأصلية العربية. لكن تبقى المفارقة هنا أنّ شكري أول من اعترف به ككاتب لم يكن العرب، بل كان الإسبان وبعدهم الغرب.
شكري لم يتجمّل، لم يكذب، وفي النهاية قال جملةً تسكت الجميع “فاتني أن أكون ملاكاً”؛ جملة تشفع لهذا الكاتب دخول عوالمَ ربما أنا وأنت والقارئ ظروفنا أنقذتنا منها إذن، على عكس السِيَر الذاتية الكلاسيكية للكتّاب الكبار التي عادةً ما يخفي فيها جمال اللغة بشاعةَ الواقع وتمتلئ بالمثاليات عن قصص الحب الأولى والولع بالمطالعة والموسيقى منذ الصغر. كَتَب محمد شكري “الخبز الحافي” بواقعية فجّة مؤرخاً لطفولة قاسية عاشها بين براثن الفقر والجوع والجهل والتشرد والعوالم السفلية لريف المغرب أبان الاستعمار. لم يعش شكري طفولةً عاديةً ولا حتى أقل من العادية، ولم يتعلّم القراءة والكتابة إلا بعد العشرين، فلم يقرأ دوستويفسكي ولا سَمِع يوماً عن موزارت وباخ، إذ دَأَبَ منذ العاشرة على التسكّع والنشْل وتدخين الكيف وارتياد المواخير، لتبلغ الرواية ذروة قسوة الواقع وبذاءته بالنسبة لطفلٍ في ذلك السنّ، وقمة وحشية الإنسان بقتل الأب لأخيه أمامه، وقمة انحطاطه وشهوانيته في إدمانه واندفاعه المرضي نحو الرغبة.
ما كُتب في الأثر هي تلك الأشياء التي لا تُقال ولا تُكتب، هي تلك البذاءة المتولّدة عن بذاءة الواقع على رأي مظفر النواب:
باختصار: كل شيء مؤلم جداً…
في تذكّره لقبر أخيه الصغير، يُنهي شكري روايته بالتالي: أخي صارَ ملاكاً. وأنـا… سأكون شيطاناً، هذا لا ريب فيه؛ الصغار إذا ماتوا يصيرون ملائكة والكبار شياطين، “لقد فاتني أن أكون ملاكاً”!
قصيدة العدد:
أبو الطيب المتنبي – واحَـرَّ قَـلـبـاهُ مِــمَّـن قَــلبُـهُ شَــبِــمُ
إعداد: أيمن الرمحي
هذه القصيدة قالها المتنبي في مدح سيف الدولة، وفيها يفخر بنفسه ويردّ كيد الحُسّاد الشعراء الذين أفسدوا ما بينه وبين الممدوح، ويبدأها بشكواه من برودة عاطفة سيف الدولة نحوه، بخلاف الماضي القريب الذي كان سيف الدولة يعتبر المتنبي فيه شاعر البلاط الأول. بهذه القصيدة تظهر إحدى أهم خصائص شعر المديح لدى المتنبي، فقد كان يقسم مدحته بينه وبين ممدوحيه، بل أنه بهذه القصيدة أفرد الجزء الأكبر من قصيدته لمدح نفسه وتقديمه إياها على مدح سيف الدولة.
واحَـرَّ قَـلـبـاهُ مِــمَّـن قَــلبُـهُ شَــبِــمُ وَمَـن بِـجِسـمي وَحـالي عِـندَهُ سَـقَمُ
ما لـي أُكَـتِّـمُ حُـبّاً قَـد بَـرى جَسَدي وَتَدَّعي حُـبَّ سَـيـفِ الـدَولَـةِ الأُمَـمُ
إن كــــانَ يـَجـمَعُــنا حُـبُّ لِغُـرّتــهِ فَـلـيـتَ أنا بِـقـدرِ الحُـــبِ نَقـتَـسِـــمُ
قد زُرتُهُ وسُـيـوف الهِـنـد مُغمـــدةٌ وقـد نَظَـرتُ إلـيـهِ والـسُـــيـوفُ دَمُ
فـكـان أَحــســن خَلـــقِ اللـه كُـلّهـم وكانَ أَحـسنَ مافي الأَحـسـنِ الشِـيَمُ
فَـوتُ الـعَــدوِ الـذي يَـمَّـمـتَـهُ ظَـفـرٌ فـي طَــيّـهِ أَسـفٌ فـي طَــيّـهِ نِـعَـــمُ
قد نابَ عنكَ شَديدُ الخوف واصطَنَعَت لَـكَ المَهابــــةُ مـا لا تَـصنـعُ الـبُهَـمُ (1)
أَلَـزمتَ نَفسـكَ شـيـئاً ليـس يَـلـزَمُها أن لا يُــوارِيَـهــم أَرَضٌ ولا عَــلَــمُ
أَكُـلّــما رمـت جــيـشاً فانثَـنَى هَرباً تَــصَـرّفَـت بِـكَ فـي آثـارِهِ الـهِـمَــمُ
عـليـك هَـــزمُهُـمُ في كـل مُعـتـركٍ وما عَـليـكَ بِهِـم عـارٌ إذا انـهَـزَمـوا
أما ترى ظَـفَـراً حُلـواً سِـوى ظَـفَـر تـَصافَحَـت فيـه بيـضُ الهِندِ والـلّمَمُ (2)
يا أَعدَلَ النـاسِ إِلا فـي مُـعامَـلَـتـي فيكَ الخِصامُ وأَنتَ الخَصمُ وَالحَـكَمُ
أُعـيـذهـا نَظـراتٍ مِـنـكَ صـادِقَــةٍ أَن تَحـسَبَ الشَـحمَ فيمَن شَحمُهُ وَرَمُ (3)
وما انـتـفاعُ أُخي الـدُنـيا بناظِـــرِهِ إذا استَـــوَت عِندَهُ الأَنـوارُ والظُـلَـمُ
سَـيَعـلَـمُ الجَــمعُ مِمّن ضَمّ مَجلِـسُنا بـأنّـني خَـيـرُ مَـن تَـســعَـى بـه قَـدَمُ
أَنـا الَّـذي نَـظَـرَ الأَعـمى إِلى أَدَبي وَأَسـمَعَـت كَـلِـماتـي مَـن بِـهِ صَـمـَمُ
أَنـامُ مِـلءَ جُـفـوني عَن شَـوارِدِهـا وَيَـسهَـرُ الخَـلـقُ جَـرّاها وَيَـختَـصِـمُ
وَجــاهِـلٍ مَـدّهُ في جَـهـلِـهِ ضَحِكي حَــتّـى أَتَــتــــهُ يَــدٌ فَــرّاســـةٌ وَفَــمُ
إِذا رَأيـتَ نُـيـوبَ الـلَـيــثِ بــارِزَةً فَلا تَــظُـنـَّـنَّ أَنَّ الــلَـيـثَ يـبـتــسِــمُ
ومُـهـجـةٍ مُهـجتي من هَمّ صاحبِها أَدرَكـتُـــها بِــجَـوادٍ ظَـهـرُهُ حَـــرَمُ
رِجلاهُ في الرّكضِ رِجلٌ واليدانِ يدٌ وفِـعــلُــهُ ماتُــريـدُ الـكَـفُّ والـقَــدَمُ
ومُرهَفٍ سِـرتُ بَينَ الجَـحفَلَيــن بِهِ حتى ضَرَبُت ومَوجُ المَوتِ يَلـتَطـمُ
الخَـيـلُ وَاللَـيـلُ وَالـبَـيـداءُ تَعـرِفُني وَالسـَيفُ وَالرُمحُ وَالقِرطاسُ وَالقَلَمُ
صَحِبـت في الفَلَوات الوَحَش مُنفرِداً حتى تَعَـجَّـــبَ منّي القُـورُ والأَكــمُ (4)
يـا مَـن يَـعِـزُّ عَـلَـيـنا أَن نُـفارِقَـهُـمْ وِجـدانُـنـا كُـلُّ شَـيءٍ بَـعـدَكُـم عَـدَمُ
مــا كانَ أَخـلَـقَــنا مِـنـكُم بِتَـكــرِمةٍ لــو أنَّ أَمَــرُكُــم مــن أمــرِنـا أَمَــمُ (5)
إِن كــان سَــرّكُـمُ ما قالَ حـاسِـدُنـا فَــمـا لِـجُـــرحٍ إِذا أَرضـاكُـــم أَلَـــمُ
وبـينَــنَا لـو رَعَيـتُـم ذاكَ مَـعـرِفــةٌ إنّ المَعـارِفَ فـي أَهـلِ النُـهَـى ذِمَـمُ
كم تَـطـلُبُـون لَـنا عَـيبـاً فـيُعـجِـزُكم ويَــكـرَهُ الـلـه مـا تـأتُــونَ والـكَــرَمُ
ما أَبعَدَ العَيبَ وَالنُقصانَ من شَرَفي أَنا الـثُـرَيّا وَذانِ الــشَــيـبُ وَالـهَـرَمُ
لَـيـتَ الغَمامَ الذي عِـندي صَـواعِقُهُ يُــزيــلُهُــنّ إلـى مَـن عِـنــدَهُ الـدِيَــم
أرى النَـوَى يَقـتَضيـنـني كُلّ مَرحلةٍ لا تَــســتَـقِـل بـها الـوَخّـادةُ الـرُسُــمُ (6)
لـئِـن تَـرَكـنَ ضُـمَيراً عـن مـيامِـنِـنا لَــيَــحــدُثَــنَّ لِـمَـن ودَّعــتُـهُــم نَــدَمُ (7)
إذا تَـرَحّـلـتَ عـن قَـومٍ وقـد قَــدَروا أن لا تُـفــارِقَــهـم فـالــراحِـلون هُــمُ
شَــرُّ الـبـِلاد مَـكانٌ لا صَــديـقَ بِــه وشَـرُّ مـا يَكـسِـبُ الإنـسـانُ ما يَصِـمُ (8)
وشَــرُّ ما قَــنَـصـتـهُ راحَـتي قَـنَصٌ شُـهبُ الـبُـزاةِ سَــواءٌ فــيـهِ والـرَخَـمُ (9)
بأي لَـفـظٍ تَـقُـولُ الـشِـعــرَ زِعـنِـفـةٌ تَـجـوزُ عِـنـدَكَ لا عُــربٌ ولا عَـجَـمُ (10)
هــذا عِــــتـابُـــكَ إلا أَنّـــهُ مِـــقَـــةٌ قــــد ضُـــمّـن الـدُرَّ إلا أَنــهُ كَـــلِــمُ (11)
(1) يمتدح مهابة سيف الدولة التي تخشاها البهم، جمع بهمة، وهو الفارس الشجاع.
(2) اللمم، جمع لمّة، وهي مجتمع الشعر في الرأس من جانبيه. يقول لماذا أيها الممدوح لا تعد الظفر ظفراً، إلا بلقاء الأعداء واللحام.
(3) يحذره من أولئك المدّعين حب سيف الدولة، فما حبهم الذي يظهرونه، إلا كالورم في الجسم، وما هو بشحم.
(4) يفخر بشجاعته وبطولته وفروسيته، والقور: الحرّات النخرة السود والمنخفضة.
(5) الأمم: القريب. وأخلقنا: أجدرنا
(6) الوخّادة الرسم، صفتان للإبل السراع تنهب الأرض نهباً، وترسم فيها الآثار.
(7) ضمير، إسم جبل بعينه.
(8) يَصِـمُ: يشين ويعيب.
(9) الرخم: من الطيور الضعاف، بخلاف البزاة، جمع بازي، وهي من كواسر الطير وشدادها.
(10) يهاجم الشعراء المتطفلين الذين استمع إليهم الممدوح، وهم دونه في الشاعرية والمحبة له. والزعنفة: الثلة القليلة من اللئام.
(11) المقة: المحبة.
أبو الطيب المتنبي:
أحد أعظم شعراء العرب، وأكثرهم تمكناً باللغة العربية وأعلمهم بقواعدها ومفرداتها، وله مكانة سامية لم تتح مثلها لغيره من شعراء العربية، فيوصف بأنه نادرة زمانه، وأعجوبة عصره، وظلّ شعره إلى اليوم مصدر إلهام ووحي للشعراء والأدباء.
هو أحمد بن الحسين الكندي، نسبة إلى كندة، محلّة بالكوفة، الجعفي، نسبة إلى بني جعفى، إحدى القبائل العربية النازلة بظهراني الكوفة. وهو المكنى بأبي الطيب، والمُلقب بالمتنبي، روي أنه لقب بذلك لادعائه النبوة، وهذا غير صحيح، وقيل لفطنته ونبوغه، وهذا رأي أبي العلاء المعري، نسبة إلى النبوة، وهي ما ارتفع من الأرض، إذ أن ظهوره على سائر الشعراء، ونبوغه فيهم نبوغاً مميزاً، أشبه ما يكون بالنبوة في ارتفاعها عمّا حولها من الأرضين.
المتنبي عربي النسب من جهة أبيه وأمه، ولد في الكوفة عام 303 هـ/ 915 م، ونشأ فيها، كان أبواه فقيرين، حيث كان أبوه يعمل سقاءً في الكوفة، درس أبو الطيب في كتاتيب الكوفة، ولمّا كان في الثامنة من عمره، غزا القرامطة الكوفة، ففرّ به أبوه إلى بغداد ثم إلى بادية السماوة، وقد مكث هناك عامين استقى فيه اللغة العربية من مهدها، آخذاً غريبها من أفواه العرب الأقحاح، مثلما أتقن فنون الحرب والفروسية، وقد اشتغل لبعض الوقت في دكاكين الوراقين، وما انقطع قط عن تحصيل الثقافة والعلوم.
أكثرمن التجوال في الشام، فزار عدداً من مدنها وبواديها، برزت وقتها نزعته العربية بجلاء، وخير ما يصور ذلك قوله:
وَإِنَّما الناسُ بِالمُلوكِ وَما تُفلِحُ عُربٌ مُلوكُها عَجَمُ
لا أَدَبٌ عِندَهُمْ وَلا حَسَبٌ وَلا عُـهودٌ لَهُمْ وَلا ذِمـَمُ
بِكُلِّ أَرضٍ وَطِـئتُـها أُمَمٌ تُرعَى بعَـبدٍ كَـأَنَّـها غَنَمُ
يمتاز أبو الطيب عن سائر الشعراء بشخصية قوية فذة، أهم سماتها الخلق، والنزاهة، والترفع عن الدَنايا، والشجاعة والطموح، كما عشق المجد والبطولة والفروسية، والميل إلى السيادة، فلا عجب أن ترى القوة والعنفوان، نزعتين تطغيان على سائر شعره. مدح الكثير من الحُكّام والأمراء والقُوّاد والوزراء، أما أشهر من مدحه فهو أمير حلب سيف الدولة الحمداني (علي بن عبدالله)، حيث خصّه المتنبي بأجمل القصائد وأروعها، وصحبه في غزواته، وشهد حروبه ضد الروم.
ملأ المتنبي الدنيا وشغل الناس، وسار شعره في الآفاق، وخلد على مدى الزمان، ومن أهم ما نفح شعره سمة الخلود والشهرة، هي تلك النزعة المثالية، واللمحة القومية، والنبرة العربية الصافية، والحكمة البالغة، وأصبح عددٌ كبيرٌ من أبيات شعره حِكَماً عربية متداولة يجري على ألسنة الناس، ويرددونه في المناسبات كالأمثال السائرة.
ترك أبو الطيب ديواناً من الشعر، كان توفر على تدوينه وجمعه في حياته بنفسه. توفي عن عمر يناهز الواحدة والخمسين سنة 354هـ/ 965 م، حيث قُتل على يد فاتك الأسدي الذي كمن له مع رهط آخرين، بين بغداد والكوفة. كان المتنبي قد هجا أخت فاتك، وابنها ضبة بقصيدة كانت مطلعها:
ما أَنصَفَ القَومُ ضَبَّةْ وَأُمَّـهُ الـطُـرطُـبَّـةْ
المراجع:
ديوان المتنبي، تعليق د. يحيى شامي، دار الفكر العربي، الطبعة العاشرة 2004.
اترك تعليقاً